سلسلة المواعظ الرمضانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا.
أما بعد أيها الإخوة المؤمنون ، أيتها الأخوات المؤمنات تقبل الله صيامكم وقيامكم.
نواصل إن شاء الله تعالى حديثنا عن شهر رمضان المعظم باعتباره فرصة استشفائية علاجية مركزة في أيام معدودات ضد أمراض المعاصي المهلكة للنفس البشرية .وإذا ما كنا في الحلقتين السابقتين قد بينا طبيعة العلاج بالصيام في نهار رمضان ، وطبيعة العلاج بالإنفاق ليل نهار في رمضان ، فإننا في هذه الحلقة سنعود للحديث عن علاج القيام الذي اكتفينا بالإشارة إليه سابقا دون تفصيل.
يقترن علاج القيام ، ويكون في أول الليل وآخره بالقرآن الكريم. فإذا ما كان علاج الصيام نهارا يضعف شهوات الجسم التي تعطيه قوة قد تستغل لجلب أمراض المعاصي للنفس، فإن علاج القيام يأتي في وقت يكون الجسم قد استعاد قوته بعد الإفطار وصار مؤهلا لاستخدامها في تعريض النفس لأمراض المعاصي. وقد وصف الله تعالى لعباده علاج القيام بالليل حتى لا يكون هناك فاصل زمني كبير بين جرعة دواء الصيام وجرعة دواء القيام لتحقيق غاية العلاج المركز الذي يعطي النفس مناعة كافية خلال حول كامل قبل أن تتكرر عملية فحص الأعمال في شعبان لتحديد الحالة الصحية للعباد قبل دورة استشفائية مركزة جيدة.
والله تعالى يصرح بطبيعة كلامه الكريم الشفائية فيقول عز من قائل : [ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ] ولا يذكر الشفاء إلا حيث تكون العلل ويكون العلاج. وأكبر علة هي علة المعاصي لهذا واجهها الله تعالى بعلاج القرآن الكريم. ومما يؤكد الطبيعة العلاجية للقرآن الكريم قوله تعالى : [ طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ] فأية شقاوة تستهدفها هذه الآية الكريمة ؟، إنها شقاوة ورد ذكرها أيضا في الذكر الحكيم وتتعلق بوجود الإنسان الذي تفضل الله عز وجل عليه بالوجود في الجنة دون سعي منه أو عمل ودون امتحانه. وقد وصف الله سعادة الجنة مخاطبا نبيه آدم : [ إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ] وفي نفس الوقت حذره من فقدانها والتحول من السعادة إلى الشقاوة قائلا سبحانه : [ فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ] إذن الخروج من الجنة عبارة عن شقاوة ذلك أن الإنسان بعدما كان منعما دون تعب ولا نصب في الجنة صار يبحث في الأرض عن قوته ومائه وكسوته ، ويلتمس لذلك الأسباب وكان في غنى عنها وهو في نفس الوقت يغامر ويقامر بمكان سعادته الأبدية من خلال إصابته بداء المعاصي التي تحله دار الشقاوة الأبدية.
فالقرآن الكريم هو وسيلة الإنسان للسعادة الأبدية قبل العاجلة، أو هو علاجه من داء الشقاوة الأبدية قبل العابرة، وليست الشقاوة سوى اقتراف المعاصي التي تطرد الإنسان من دار السعادة إلى دار الشقاوة.
ولما كتب الله تعالى لخلقه العلاج بالقرآن خصوصا في فترة رمضان ذات العلاج المركز والمكثف فإنه حدد وصفته فجعل اليسير من القرآن هو المحقق للعلاج بفاعلية حيث يقول جل من قائل : [ فاقرءوا ما تيسر من القرآن ] تماما كما ينصح الأطباء بجرعات محدودة من الدواء ، ولا عبرة بتناول قارورة دواء كاملة مثلا دفعة واحدة لتحقيق الشفاء. والله تعالى جعل علاج القرآن في مكث وتؤدة فقال جل من قائل : [ وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ] وما استمر القرآن في النزول طيلة ثلاث وعشرين سنة من عمر النبوة والرسالة إلا لتحقيق العلاج عبر جرعات متلاحقة تحاصر العلل بتدرج تماما كما يكون العلاج المحافظ على الجسم والذي يكون متدرجا وفعالا ، ويختلف عن العلاج الذي يكون دفعة واحدة من قبيل البتر أو الكي وهو آخر الدواء مرتبة كما يقال.
واختار الله عز وجل كيفية معلومة لتعاطي دواء القرآن الكريم وهي طريقة القراءة وطريقة السماع والإنصات لقوله سبحانه : [ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ] وقد جعل الله الشفاء في القرآن بالكيفيتين معا قراءة وسماعا علما بأن ما يحصله القارئ من الأجر هو نفس ما يحصله المستمع دون أن ينقص الواحد من أجر الآخر وبنفس المعامل وهو عشر حسنات بالحرف الواحد من القرآن مع التذكير بأن نفس الحرف بدون قرآن لا يحصل صاحبه به شيئا بل قد يهوي في نار جهنم سبعين خريفا إذا كان الحرف الذي يفوه به أو كانت الكلمة التي ينطق بها من سخط الله عز وجل ، وهو ما يؤكد بركة القرآن الكريم التي لا توجد في غيره من كلام البشر.
وكما حدد الله عز وجل كيفية تعاطي علاج القرآن حدد أيضا أوقات العلاج فقال جل من قائل: [ ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ] كما قال: [ وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ]. ولما كانت كيفية تعاطي القرآن الكريم هي إما القراءة وإما الاستماع والإنصات فإن أنسب وقت لذلك ساعات الليل الذي جعله الله سكنا ، وقد أغرى عباده بقرآن الليل حتى أنه جعل ملائكته الكرام يشهدونه ، والإنسان إذا ما آمن بشهود الملائكة قراءته وإنصاته للقرآن بادر بذلك تبركا بالملائكة.
وفضلا عن كيفيات تعاطي دواء القرآن الكريم وأوقاته فقد جعل الله تعالى فيه ما يحقق الشفاء حيث صرف فيه كل ما له علاقة بعمر البشرية من بدايتها إلى نهايتها مصداقا لقوله تعالى : [ ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا ] وهي ذكرى تتعلق بالقضية الوجودية للإنسان سواء تعلق الأمر بوجوده الأول في الجنة أم بخروجه منها بعد الخطيئة أم بامتحانه بعد ذلك من أجل العودة إلى جنته أو تضييعها إلى الأبد بسبب الخطايا التي كانت سبب خروجه منها أول مرة وقد استنفذ فرص العفو في دنياه.
ومن التصريف في القرآن ضرب الأمثال لقوله تعالى : [ ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل] وهي أمثال تضرب للتذكير ويعقلها العالمون كما جاء في الذكر الحكيم في قوله تعالى : [ ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ] أو قوله سبحانه : [ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون].
وإلى جانب الأمثال أمر الله تعالى نبيه بقص القصص مما أوحى إليه لغرض التفكر حيث يقول جل من قائل : [ فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ] ولا يتعلق الأمر بقصص مما يتخيل القصاص ، وإنما القصص الواقعي الذي مرت بها البشرية وهو المقصود بقوله تعالى : [ نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ].
فالتأثيرات التي يحدثها القرآن الكريم بأمثاله وقصصه وغيرها مما جاء فيه وهو الكلام الذي يستوعب الوجود البشري من بداية الخليقة إلى نهايتها ، ويستعرض من حياة البشر النماذج التي تتكرر أمثلتها في كل عصر ومصر ، وتكون هذه النماذج بمنزلة القواعد التي تقعد للأمثلة وتحكمها. فقصة نبي الله يوسف عليه السلام مثلا هي نموذج العبد الذي تعرضت له المعصية فلم يقترفها خوفا من الله عز وجل ، ولاقي بسبب ذلك المشاق فصمد ، ولم يستسلم حتى نصره الله عز وجل. فهذا نموذج وقع في تاريخ البشرية ، وهو واقع في كل عصر وفي كل مصر ، فكل من عرضت له المعصية مهما كان نوعها وليس من الضروري أن تكون كالمعصية التي عرضت لنبي الله يوسف عليه السلام يجب أن يصمد صموده ويتحمل المشاق لينال في النهاية الجائزة التي نالها يوسف عليه السلام. وما قيل عن قصة يوسف عليه السلام يقال عن كل القصص القرآني سواء تعلق الأمر بقصص الصالحين أم بقصص الطالحين ، وهكذا يتم علاج الإنسان بالقرآن من خلال قياس حاله على أحوال من سبقه في هذه الدنيا لتنكب سبل الطالحين ، والاقتداء بسبل الصالحين. ويخطأ البعض عندما يتعامل مع القرآن على أساس أنه كتاب ماضوي لا يعنيه ما جاء فيه ، والحقيقة أنه يعنيه مباشرة ، ولكنه تغيب عنه طبيعة كلام الله الخالد الذي يتناول قضية الإنسان الوجودية بغض الطرف عن مقولتي الزمان والمكان. فهو كتاب حقائق أكبر من أن تحصر في زمان أو مكان. و من الغريب أن يتخذ الناس من فلسفات البشر ثوابت تتخطى الأزمنة والأمكنة ، ويستكثرون على كلام الله عز وجل تخطي الزمان والمكان.
ولعل من أمراض الإنسان التي عالجها القرآن هو طبيعته المنكرة الجاحدة للحقائق بالرغم من قيام الحجج والدلائل عليها. وقد تناول الله عز وجل قضية تأثير علاج القرآن في مخلوقات أبعد ما تكون عن الطبيعة البشرية الضعيفة كالجن الذين تؤهلهم طبيعتهم النارية المندفعة والجبارة للجحود والإنكار كما كان حال إبليس المخلوق الجني فقال جل من قائل : [ وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي للحق وإلى صراط مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ] فإذا كان هذا حال الجن مع علاج القرآن الكريم فكيف يمكن أن يستغني عنه الإنسان الأقل قوة من قوة الجن المارد. وحتى طبيعة الإنسان الترابية وفي قمة عظمتها تتأثر بالقرآن كما جاء في قوله تعالى : [ لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ] فإذا كانت ملايين الأطنان من التراب وهي الجبال تخشع لسماع القرآن فليس من المعقول ولا من المقبول أن تستنكف حفنة من التراب وهي الإنسان عن سماعه والتداوي به من أمراض المعاصي المهلكة.
معشر الإخوة والأخوات ليس القرآن الكريم مجرد كلام يودع في الأشرطة والأقراص والتسجيلات واللوحات التي تزين بها الجدران ، ولا هو كلام يردد بطريقة ببغاوية ، ولا هو طلاسم كهنوتية بل هوحقائق وجودية تلازم الإنسان في كل أحواله مهما كانت . وخضوع الإنسان لدورة رمضان الاستشفائية العلاجية من خلال جرعات صلاة القيام أو القرآن معناه الاستعداد لملازمة القرآن خلال باقي أيام السنة.ونحن في حاجة لقرآن يصاحبنا في بيوتنا وشوارعنا وأماكن عملنا المختلفة ولسنا في حاجة لقرآن نستمعه بدون استيعاب ولا تدبر ولا تذكر. واحذروا أن يصدق عليكم وصف ربكم جل وعلا : [استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم ] أو قوله سبحانه : [ وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ] . فالذي يهجر القرآن يهجر العلاج ، والذي يستمع إليه وهو يلعب وقلبه لاه عنه لا يستفيد من العلاج الذي جعله الله عز وجل في هذا الشهر العظيم من خلال دورة استشفائية علاجية مركزة تكسب المؤمن جهاز مناعة ضد المعاصي بعد رحيل رمضان.
Aucun commentaire