سلسلة المواعظ الرمضانية
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلا وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلا.
أيها الإخوة المؤمنون ، أيتها الأخوات المؤمنات تقبل الله صيامكم وقيامكم.
نواصل حديثنا أن شاء الله تعالى عن رمضان المعظم باعتباره فرصة علاجية سنوية مركزة حيث يتعاطى المؤمن خلال شهر كامل علاجا مركزا يتمثل في جرعات دوائية ضد داء المعاصي وهي جرعات الصيام بالنهار ، وجرعات القيام بالليل ، فضلا عن جرعات أخرى نذكر منها في هذه الحلقة جرعة الإنفاق.
لقد جعل الله عز وجل للمؤمنين في الرسول الأكرم صلوات الله وسلامه عليه إسوة حسنة ، والإسوة الحسنة جديرة بالاقتداء لحسنها. ومما أثر عن حسن عمله صلى الله عليه وسلم أنه كان أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حتى لكأنه الريح المرسلة. ومعلوم أن الريح المرسلة فيها الخير العميم إذ تنقل زخات المطر المتتالية ، ويكون عطاؤها كثيرا، فكذلك عطاء رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم. والمؤمنون قد يبدون كبير اهتمام بعلاج الصيام والقيام، ويهملون علاج الإنفاق وهو علاج مصاحب لعلاجي الصيام والقيام.
ومعلوم أن علاج الإنفاق يداوي علة خطيرة تلازم الإنسان فطرة وجبلة لأنه قتور بطبعه ، وهي علة الشح كما جاء في قوله تعالى : [ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا] فإذا بخل الإنسان وفي ملكيته خزائن الله عز وجل الواسعة والتي لا تنفذ فكيف يكون حاله إذا افتقر ولم يكن في يده شيء. ولهذا يذكر الله تعالى الوقاية من داء الشح وهو بخل مع الحرص فيقول: [ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ] ولا تذكر الوقاية إلا حيث تكون العلة والمرض ويكون العلاج. وقد حذر الله تعالى من خطورة داء الشح وهو مهلك فقال جل من قائل : [ وانفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ] إذ ذكر جل من قائل التهلكة في معرض الحديث عن الإنفاق. وقد جاء في التفسير أن التهلكة تكون إما فرارا وإدبارا من الجهاد في سبيل الله ، وإما بخلا وشحا، لأن الله قال في المدبر : [ فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ] وهذا وجه من وجوه التهلكة ، كما قال في البخيل : [ سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ] وهذا وجه آخر من وجوه التهلكة التي حذر منها الله عز وجل عباده. وفي معرض التحذير من الشح يقول الله عز وجل أيضا : [ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة ] فقد حذر المولى جل وعلى من يوم إنما الخلاص فيه يكون بالإنفاق لا غير حيث تعدم يومئذ مصادر الإنفاق المتوفرة في هذه الدنيا.
وامتدح الله عز وجل الإنفاق فذكره كركن من أركان الإسلام مع ركن من أركان الإيمان وركن من أركان الإسلام حيث قال في وصف المؤمنين : [ الذين يِؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ] فدرجة الإنفاق كدرجة الإيمان بالغيب وكدرجة الصلاة وهي صفة من صفات المؤمنين.
والله عز وجل يتعهد عبادة المؤمنين بعلاج الإنفاق في رمضان وفي غير رمضان ضد داء الشح المهلك بتدرج عجيب، فلعلمه سبحانه بطبيعة النفس البشرية القتورة فقد حبب لها علاج الإنفاق تماما كما تحلى الأدوية المرة ليستسيغ المرضى تناولها . فهو يطمئن النفوس الشحيحة بقوله سبحانه : [ وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ] فقد يظن المنفق أنه سينفق دون الحصول على مقابل فيكون بذلك مظلوما لهذا تعهد الله له بالإنصاف من خلال ضمان المقابل لإنفاقه الذي يضيع سدى. كما أنه سبحانه يؤكد هذا الضمان فيقول : [ وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ] فعندما يتأكد الإنسان من وجود خلف لنفقته فإنه لا يتردد في الإنفاق. وأكثر من ذلك يطمئن الله عباده بأن قضية الإنفاق لا تعدو قروضا مضمونة فيقول جل من قائل : [ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ] فالإنسان عندما يطمئن بأن الإنفاق عبارة عن قرض يعود عليه بفوائد كثيرة فإنه لا يتردد في الإنفاق. ويؤكد الله هذه الفوائد بقوله تعالى : [ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء ] فعندما تصير الفائدة سبعمائة في المائة ، وأكثر فإن العرض الإلهي يكون أسخى العروض وأكثرها إغراء إذ غالبا ما يتعاطى الناس الربا بفوائد أقل من العرض الإلهي السخي والمغري حقيقة.
وكما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مفسدات علاج الصيام بتعاطي الرفث والسخب كما مر بنا في الموعظة الأولى ، تماما كما يفعل الأطباء مع مرضاهم حين يصفون لهم الأدوية ويحذرونهم مما يفسدها من أطعمة وأشربة وغيرها ،كذلك حذر الله عز وجل من مفسدات علاج الإنفاق في قوله جل من قائل : [ يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ] وما أبلغ كلمة إبطال في الآية الكريمة فالمن والأذى بمنزلة أطعمة وأشربة تبطل مفعول دواء الإنفاق الذي وصفه الله تعالى لعباده ضد مرض الشح المهلك. ومن أجل تأكيد هذا المعنى يضرب الله لعباده مثلا للذي يبطل إنفاقه بمفسدات المن والأذى فيقول جل من قائل : [ فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا ] فقد تعجب الناس تربة فوق صفوان أي فوق صخرة ملساء و يظنون بها الخصب إذا ما زرعت ولكنها سرعان ما يجرفها وابل المطر فتنكشف الصخرة الملساء التي كانت تعلوها التربة المشتهاة ويتبخر حلم الخصب، فما أسرع انكشاف المنفق المنان المؤذي.
وكما جعل الله تعالى جرعة دواء الصيام بالنهار ، وجرعة دواء القيام بالليل فإنه جعل جرعة دواء الإنفاق مشتركة بين الليل والنهار فقال عز من قائل : [ الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية] مما يعني أن جرعة الإنفاق ذات أهمية وهي ضرورية لجرعة الصيام بالنهار ولجرعة القيام بالليل. وكما يعالج بعض الأطباء بعض الأمراض بسرية تامة لخطورتها أو لتقزز الناس منها في حين يعالجون أخرى بعلانية، فكذلك عالج الله عز وجل بعض حالات الشح بسرية ، كما عالج حالات أخرى بعلانية.
معشر المؤمنين لقد كثر في زماننا أصناف المحتاجين ، وأكثرهم في بلاد المسلمين التي سلبت وحوصر أهلها أو احتلت وأفقر أهلها، أو استبيحت وتركت مباحة كما هو حال فلسطين وأفغانستان والعراق والصومال ، والمسلمون في كل مكان ينعمون بالنعم الوافرة، وقد تفضل عنهم وتلقى في القمامات ولا تجد سبيلها إلى المحتاجين مع أن سول الله صلى الله عليه وسلم فرض الصدقة على كل مسلم حسب وسعه وطاقته فقال : « »على كل مسلم صدقة ، قال أرأيت إن لم يجد قال يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق ، قال أرأيت إن لم يستطع قال يعين ذا الحاجة الملهوف ، قال أرأيت إن لم يستطع قال يأمر بالمعروف أو الخير ، قال أرأيت إن لم يفعل قال يمسك عن الشر فإنها صدقة « » فالصدقة التي أوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم تتراوح بين عطاء ، وجهد ، ونصح ، وأقلها إمساك عن الشر. ومن الشر أن يفكر البعض في عرقلة مشاريع الخير والإنفاق مخالفين بذلك وصية رسول الله صلة الله عليه وسلم ، وكان الأجدر بهم أن يكون عليه السلام إسوتهم وقدوتهم في الإنفاق خصوصا في شهر الصيام ، وهو فرصة الاستشفاء السنوية من ضيعها عرض نفسه لهلاك أوبئة المعاصي الفتاكة.
أيها الإخوة المؤمنون ، أيتها الأخوات المؤمنات بادروا بعلاج أنفسكم بالذي عالجكم به رب العزة سبحانه ، وتعرضوا للدورة العلاجية الرمضانية لتقضوا حولكم بعافية وصحة من الموبقات ، في انتظار أن يبلغكم الله تعالى دورة استشفائية أخرى.
1 Comment
قال احمد شوقي رحمه الله : وما نيل المطالب بالتمني ///// ولكن تؤخذ الدنيا غلابا