المنهجية الديمقراطية
ينص الفصل 24 من الدستور المغربي على ما يلي: «يعين الملك الوزير الأول. ويعين باقي أعضاء الحكومة باقتراح من الوزير الأول (…)». بناء عليه، فإن الملك ليس ملزما قانونيا بتعيين الوزير الأول من الحزب الذي تصدر نتائج الانتخابات، أو من حزب متواجد ضمن أغلبية قائمة، أو حتى من ضمن الشخصيات السياسية في البلاد، باستثناء ما قد يترتب نظريا على الأقل عن تعيين تقدر أغلبية أعضاء مجلس النواب عدم وجاهته، فتعمد إلى إسقاط الحكومة عندما يتقدم الوزير الأول ببرنامجها أمام المجلس طبقا للفصلين 60 و75 من الدستور.
خلال انتخابات 2002، تبوأ الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المرتبة الأولى من حيث عدد المقاعد، ومع ذلك تم تعيين السيد إدريس جطو وزيرا أول بالرغم من كونه شخصية تكنوقراطية ليس لها لون سياسي. وعندها بادر المكتب السياسي للحزب المذكور إلى إصدار بيان شهير مؤرخ بـ10 أكتوبر 2002، أكد عبره أنه «وهو يستشعر دقة المرحلة، يعتبر أن التقدم الديمقراطي الذي حققته بلادنا، يقتضي مراعاة نتائج الاقتراع الشعبي والمنهجية الديمقراطية المترتبة عنها، وأنه لا شيء يبرر الابتعاد عن هذه المنهجية».
إن المنهجية الديمقراطية كانت تعني في نظر الاتحاد الاشتراكي أن يكون الوزير الأول المعين اتحاديا مادامت نتائج الانتخابات قد بوأت الحزب المرتبة الأولى من حيث عدد المقاعد، ولكن ذلك لم يتحقق. وقد ساهم التطاحن الضاري الذي انفجر بين حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، في تسهيل الحياد عن «المنهجية الديمقراطية». فبينما اعتبر الاتحاد أن من حقه الاحتفاظ بمنصب الوزير الأول بحكم ما أفرزته الانتخابات، وبحكم ما اعتبر ضرورة سياسية لمواصلة أوراش الإصلاح التي دشنتها حكومة اليوسفي الذي سبق أن صرح بأنه تعاقد مع الراحل الحسن الثاني في صيغة قسم على المصحف، وأن التعاقد يجب أن ينفذ بالكامل؛ اعتبر حزب الاستقلال أن تجربة «التناوب» كانت لها عمليا دعامتان أساسيتان قامت عليهما وهما الحزبان الكبيران والتوأمان المتحالفان: حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، وأن على هذين الأخيرين بحكم قوة الروابط التاريخية والسياسية التي نسجاها أن يعمدا في المرحلة الثانية للتناوب إلى إقرار نوع من «التناوب داخل التناوب»، وفي ذلك اعتراف بفضل كل من الطرفين على الآخر ومساهمته في إنجاح رهاناتهما المشتركة، فنودي آنذاك بشعار (أمولى نوبة). وترتب عن صراع الحزبين تدحرج كل منهما إلى حضيض ممارسات بهلوانية أظهرت بالملموس أن السياسة بالمغرب لم يعد ينقصها احترام منطق التحالف وروح التعاقد والتبصر والحكمة واحترام الناس فحسب، بل وتنقصها أيضا مراعاة الذوق السليم.
بعد انتخابات 2007 وحصول حزب الاستقلال على الصف الأول من حيث عدد المقاعد، وبعد تعيين الملك للأمين العام للحزب المذكور في منصب الوزير الأول، رحب البعض بهذه الخطوة واعتبرها في ذاتها تقدما سياسيا رغم جميع الحيثيات الأخرى، وقدر أن المشاكل المترتبة عن هذا التعيين يمكن أن تقرأ كـ»ضريبة للديمقراطية»، في حين ركز البعض الآخر على الشخص، معتبرا أن هناك نقطتي ضعف تلابسان هذا التعيين من زاوية «أهلية» الشخص:
– فضيحة (النجاة) التي ارتبطت بشكل أو بآخر باسم الشخص، وقد يترتب عنها إضعاف لمصداقية الحكومة التي يباشر فيها مهمة الوزير الأول.
– الظروف الصحية للوزير الأول المعين، والتي لن تساعده على إنجاز مهامه بالحيوية والإيقاع المطلوبين اليوم.
بل هناك من ذهب إلى حد الجزم بفشل التجربة كمآل حتمي، ودعا إلى «الترحم عليها» وعلى الديمقراطية والإصلاح ببلادنا. وهناك البعض الذي تساءل عما إذا كان من الضروري تعيين الأمين العام بالضبط إذا كانت الغاية هي احترام المنهجية الديمقراطية، فليس هناك في نظر هذا البعض ما يمنع من اختيار وجه آخر من وجوه حزب الاستقلال.
وإذا كان تعيين رجل سياسي من الحزب المتقدم على غيره في عدد المقاعد التي حصدها -بالرغم من عدم إلزاميته الدستورية في المغرب- هو تشخيص لفكرة ربط المؤسسات بإفرازات الخريطة الانتخابية، وهي الفكرة التي تمثل قاعدة ديمقراطية مسلم بها، فإن إعمال هذه «المنهجية الديمقراطية» قد فقد في الواقع كل قيمته وجدواه. فالوزير الأول المعين تصرف كأي «رجل تقنوقراطي»، بل ذهب أحيانا أبعد مما كنا سننتظره من رجل تقنوقراطي. فوزيرنا الأول «السياسي» صرح منذ البدء بأن برنامجه هو برنامج الملك، وأنه مطوق بواجب الخضوع للهيكلة ولمعايير التوزير ومواصفات التشكيلة الحكومية كما تحددت مسبقا في التصور الملكي. كما أن الوزير الأول المعين قبل أن تنضم إلى حظيرة حكومته مجموعة من الوجوه التي لا يشك أحد في كونها كانت خارج القائمة التي تولى مباشرة أمر اقتراحها أو تلك التي تلقاها من طرف الأحزاب التي فاوضها. ولم يكن الوزير الأول المعين وهو يساير الإملاءات، على ما يظهر، منشغلا بهاجس ألا تتجاوب تلك الإملاءات مثلا مع أساس مشروعه الحكومي ومنطق الوصفة المؤسسية التنفيذية التي يقترحها على المغاربة لمعالجة تحديات حالتنا الراهنة. ربما يكون قد انطلق كما كان ينطلق الآخرون قبله، من أن هناك دائما وقبل اللحظة الانتخابية، مشروعا حكوميا جاهزا أو شبه جاهز، بمرتكزاته وأسسه العامة، وألا بديل عنه ولا سبيل لتغييره، وأن منتهى ما يمكن أن يتسع له أملنا أو حلمنا هو محاولة تحسينه وتقديمه إلى الناس في نسخ منقحة وطبعات مزينة فقء وأن تصور شيء آخر هو موقف لا يعادي الواقعية السياسية فقط بل يتموضع في موقع التعارض مع خصائص قارة ثابتة، تمثل صلب كياننا الجماعي ومناط هويتنا الوطنية.
نستنتج إذن أن الإعمال المجرد لما يسمى بـ»المنهجية الديمقراطية» لا يكفي لتحقيق الهدف وبلوغ المرام وجعلها تؤتي أكلها، بل لا بد من وجود عناصر أخرى ترتبط بها بشكل وثيق وتجعل ذلك الإعمال مستجيبا بالكامل لصلب الفلسفة التي وجدت تلك المنهجية لخدمتها في الأصل، وبالتالي لجعل الوزير الأول قادرًا على بلورة مشروع فريق وعمل حكوميين أقرب ما يكونان إلى التجاوب مع الإرادة الشعبية التي ترجمتها صناديق الاقتراع.
وهكذا يتعين ربما أن نعمل على أن تتوفر في ساحتنا السياسية أربعة عناصر مترابطة ومتكاثفة لخدمة روح المنهجية الديمقراطية في شموليتها:
أولا : لا بد من الترسيم الدستوري للمنهجية الديمقراطية حتى تتحول إلى مكسب نهائي لا يقبل التراجع. ولهذه الغاية يتعين أن ينص الدستور المغربي صراحة على قاعدة تعيين الوزير الأول من الفريق الحزبي الفائز في الانتخابات. إلا أن النص طبعا يحتاج إلى نساء ورجال في مستوى ما يخدمه من مبادئ ومثل، وهنا نحتاج طبعًا إلى فاعلين لهم رصيد هام من القوة والمصداقية. إن الانتخابات تسمح للأحزاب بأن تحتاز قوة انتخابية، ولكن هذه الأخيرة لا تعني بالضرورة قوة سياسية، إذ إن القوة السياسية تستمد أيضًا من نزاهة الفاعلين واستقلاليتهم وحجم تحركهم في الشارع ودرجة ارتباطهم بالمواطنين وقدرتهم على الفعل والتأثير والمبادرة والإبداع وعمق ولائهم للمبادئ واختيار تغليبها على المصالح الذاتية.
ثانيا : وجود شخصية سياسية تقود أغلبية مكرسة انتخابيا أو تتمتع بوضع يسمح لها بقيادة الأغلبية. وإذا كان يفترض أن الحزب الحاصل على أكبر عدد من المقاعد يمثل محضن هذه الشخصية، وأن ذلك الحزب يضمن التفاف الأحزاب الأخرى الأقرب إليه سياسيا حوله، فإن الأمر لا يكون دائما بهذه السهولة، إذ قد لا تتوفر للحزب المذكور ولا لرموزه القدرة على قيادة الأغلبية. ربما لهذا السبب بادر بعض قادة حزب العدالة والتنمية المغربي إلى التصريح قبل الانتخابات، بأنهم مستعدون للعمل في الحكومة إلى جانب وزير أول تكنوقراطي انطلاقا من افتراض حصولهم على المرتبة الأولى وصعوبة تقبل المجتمع السياسي لقيادتهم لأغلبية معينة. والمشكل على كل حال يطرح في البلدان التي يكون فيها للاختلافات بين العائلات السياسية معنى، أما في المغرب فإن أشد الاختلافات الظاهرة ضراوة تذوب أمام الاشتهاء المدمن للمقاعد الحكومية التي تتقاسمها في نفس الحكومات أحزاب سياسية يفترض نظريا ألا شيء يجمعها.
ولهذا نجد الدستور الإسباني الصادر في دجنبر 1978 مثلاً، ينص في مادته الـ62 أن الملك «يقترح مرشحا لرئاسة الحكومة ويعينه، وكذلك يضع حدًا لوظائفه بالمقتضيات المنصوص عليها في الدستور. يعين ويعزل أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها». إلا أن المادة 99 نصت على أن الملك «يستشير مسبقا إثر كل تجديد لمجلس النواب، وفي الحالات المنصوص عليها في الدستور، مع الممثلين المعينين من الفرق السياسية ذات التمثيل البرلماني، ويقترح بواسطة رئيس مجلس النواب مرشحا لرئاسة الحكومة». فهذا الاحتراز المتمثل في المرور عبر رئيس مجلس النواب يمكن من وضع الملك في الصورة الحقيقية للخريطة السياسية، ويدله على جسم الأغلبية المتبلورة، والقوة التي تمثل مركز الثقل فيها، والشخصية المؤهلة لتولي مهمة الوزير الأول أو رئيس الحكومة بحكم الشروط الموضوعية المرتبطة بالخريطة البرلمانية والعلاقات القائمة بين الأحزاب والخطط المعلن عنها إبان الفترة السابقة على الانتخابات. فالدستور الإسباني لا يقضي بأن يكون رئيس الحكومة أتوماتيكيا من الحزب الأول من حيث عدد المقاعد، وحسنا فعل، إذ سيكون من السذاجة أن نعتبر دائما الحزب الأول متوفرا في جميع الحالات على أغلبية من خلال حلفاء مستعدين للعمل معه وتقبل قيادته لتلك الأغلبية.
ثالثا: الإعلان المسبق عن تحالفات واضحة تكون أساس العمل الحكومي المشترك في حالة فوز أحد تلك التحالفات بأغلبية المقاعد. إن ذلك يسمح بأن تتضح الصورة أمام الجميع. على أن التحالفات الحقيقية هي تلك التي تُبنى على قاعدة القرابة البرنامجية. وبموازاة الإعلان المسبق عن التحالفات المرتقبة يتم الإعلان أيضًا عن الشخصيات المرشحة للوزارة الأولى حسب السيناريوهات الممكنة.
رابعاً: التنصيص في أنظمة الأحزاب الداخلية، على أن تعيين الأمين العام وزيرًا أول يجعل مهمة الأمين العام تنتقل إلى غيره خلال مدة الولاية الحكومية، وذلك تفاديا للخلط بين وظيفتي رئيس الحزب و»رئيس الحكومة»، ونظرا لما تتطلبه كل وظيفة من شروط التفرغ.
2 Comments
اذا كان هذا واقع الحال فلتكن عندكم الجراة على طرح بدائل شجاعة في ال شارع المغربي الذي يراهن على احزابه الوطنية
السيد محمد الساسي انخرط في توحيد اليسار من اجل بناء تصور للنضال والتغيير وفجاة يقدم استقالته امام اول تجربة انتخابية له مما يؤكد عدم قدرته على النضال اما الدرائع التي قدمها فهي غير مقنعة . لأن النضال الحقيقيى هو ذلك الذي يكون على الارض ، الم يكن الاتحاديون اكثر جرأة والتزاما في خوض كل اشكال النضال بسلبياته وايجابياته …
المغرب يحتاج الى اناس فاعلين مكافحين وليس منظرين منهزمين يجترون نفس الكلام الممل .
لقد كانت للسيد محمد الساسي قيمته عندما كان منخرطا في حزب سياسي له تصوره وهيكله النضالي داخل المجنمع ،وعندما كان يدافع عن مشروعه ، اما الآن وهو بعيد فكيف يمكن فهم كلامه وفي اي سياق يمكن ان يوضع ….