Home»International»كيستاف فلوبير او محاكمة الرأي .

كيستاف فلوبير او محاكمة الرأي .

0
Shares
PinterestGoogle+

حرية التعبير التي تضمنتها المواثيق الدولية والدساتير الحديثة , جاءت نتيجة كفاح مرير قادته الطبقات المثقفة التي عانت من التضييق والمحاكمات بسبب الرأي , وتحت ذريعة نشر الهرطقة والإساءة للأخلاق العامة  , والأخلاق الدينية والعادات والتقاليد الموروثة .

وحوكم  من اجل ذلك الكثير من الكتاب والفلاسفة والعلماء , ونصبت الكنيسة محاكم التفتيش لمحاكمة كل من عبر عن رأي مخالف او طعن في تصرفات بعض الكهنة والرهبان من العصور الوسطى الذين كانوا يتاجرون بالدين ويبيعون صكوك الغفران لمن يدفع اكثر , وغير ذلك من الافعال التي لا تمت للديانة المسيحية بصلة بل هي بريئة منها براءة الذئب من دم يوسف .وقد اعدم من اعدم وسجن الكثير من الابرياء وعذبوا حتى الموت ومن نجى منهم فكأنه ولد ولادة ثانية , انه عصر الجاهلية الكنسي الذي يؤسس للفكر الاقطاعي الرجعي وسيادة الاستبداد والطغيان والجبروت والأحكام التي ما انزل الله بها من سلطان .

طالت المحاكمات الكتاب والناشرين بتهم الاساءة للأخلاق والدين من خلال المشاهد التي تصف الحياة الحميمية  لبعض الشخصيات الروائية الخيالية في كتب لازالت تؤثث رفوف الخزانات والمكتبات الى يومنا هذا وتحقق مبيعات قياسية , كما تم نقلها الى الشاشة السينمائية ضامنة لها الخلود عبر هذا الزمن السرمدي .

وكنموذج لمحاكمات القرن هاته , محاكمة الكاتب الفرنسي  » كيستاف فلوبير  »  عن روايته الشهيرة  » مدام بوفاري  »   سنة 1857 م , والتهمة الجاهزة دائما هي الاساءة للأخلاق العامة …

ملخص القصة ان بطلتها المسماة   » ايما  » , ستتعرف الى الطبيب  » شارل بوفاري  » بعد تردده على منزل عائلتها لمعالجة والدها من كسر في رجله , وستتوطد العلاقة بينهما الى الزواج بعد وفاة زوجته الاولى الثرية .

ايما التي تربت في دير اتاح لها فرصة المطالعة ودراسة  الموسيقى الى ان صارت فتاة حالمة متأثرة بحياة الابطال الروائيين المليئة بالرومانسية والعواطف والثراء والعيش الرغيد , وكادت حياتها الزوجة الرتيبة ان تتسبب لها في ازمة نفسية  لولا ان تلقيها دعوة لحضور حفل راقص لدى احد اصدقاء زوجها سيخرجها من دائرة اليأس والانعزال وسيفتح لها باب الامل في حياة مغايرة شبيهة بتلك التي قرأت عنها في الكتب ايام الدراسة والتي ترسخت في ذاكرتها حيث الغناء و الرقص والشراب , والحب وليالي الانس  …

وبعد عودتها للمنزل ستكتشف الفرق بين حياتها الواقعية والحياة التي تطمح اليها , الشيء الذي سيكون له بالغ الاثر على نفسيتها , مما جعل زوجها يختار الرحيل الى قرية اخرى لتغير الاجواء وطمعا في ظروف معيشية ميسرة . وهناك ستتعرف السيدة بوفاري على الشخصيات المحلية من صيدلي وموثق كاتب  وكاهن  واعيان  يؤثثون ليالي السمر ويملئون الحياة صخبا وضجيجا بأحاديثهم التي لا حد لها و التي تنم عن نفاق اجتماعي وسط طبقة ارستقراطية .

ميلاد طفلتها الاولى سيساهم في تسليتها  نوعا ما , لكن ذلك لم يحل بينها وبين مواصلة الحلم كما كان  في  السابق  , فعادت لمعانقة الخيال والأمل في حياة وردية , فوقعت في غرام  » رودولف  »  لتقرر الهروب برفقته الى الخارج  , إلا انه في اخر لحظة  سيتخلى عنها , وسيرسل اليها خطابا يبرر فيه عدم وفائه بوعده , وسيشكل ذلك صدمة لها وستعتل صحتها وتلازم فراش المرض لمدة طويلة  .

وبنصيحة من الاصدقاء سيحاول الزوج اخراجها من عزلتها بالذهاب معا للمسرح للترويح عن النفس , وهناك ستلتقي بحبها الاول  » ليون  » العائد من باريس وستتكرر لقاءاتهما الغرامية و في لحظة ضعف  ستسقط في الخيانة الزوجية .

حاجتها الى المال و الملابس الراقية و الأثاث المنزلي النفيس  ستدفعها الى الاستدانة  , ومع تراكم الديون ستعجز عن الاداء خاصة بعد ما اصاب زوجها من افلاس بعد فشله في عمله الطبي , وتوالي  الازمات , مما دفع الدائن الى استصدار حكم قضائي بالحجز على بيت و ممتلكات الاسرة وبيعها في المزاد العلني .

وقبل التنفيذ بوم واحد لجأت  ايما – باكية – الى معارفها وأصدقائها قصد  الاقتراض للحيلولة دون تنفيذ الحكم  , إلا ان صدمتها كانت كبيرة بتنكر الجميع لها  وعدم مدها بيد المساعدة رغم ما كانت تكنه لهم من محبة وعطف , فكان جزاؤها جزاء سينمار .

 امام هذا الموقف الحرج الذي وجدت بطلة القصة نفسها فيه , قررت الانتحار بتجرع السم , ومغادرة هذا العالم  القاسي , الذي لا يعترف إلا بالمادة  ولا مجال فيه للعواطف و الانسانية وغيرها من القيم . وهذا جزاء خيانة الثقة والجري وراء السراب وعدم الرضوخ للواقع واكراهاته .

وبعد مرافعات طويلة للدفاع , استطاع الكاتب فلوبير ان يحصل على البراءة في محاكمة للرأي وحرية التعبير ادخلته التاريخ   من بابه الواسع كأحد الضحايا الذي نال تعاطفا قويا . ولو كتب له ان يعيش الى وقتنا هذا لبدى له بان عمله ذاك هو قمة المحافظة والسلوك السوي الرصين خاصة امام انتشار القنوات الاباحية , والكتب والمجلات البورنوغرافية التي لا تقيم للأخلاق  وزنا , ومع ذلك لم يدع احد لمحاكمة اصحابها بحجة حرية التعبير المفترى عليها .

ولم تتوقف المحاكمات عند ذلك  الحد بل شملت كتاب متعددين تعدد التهم التي تختلف حسب ظروف الزمان والمكان , وآخر صيحاتها معاداة السامية التي جرت مفكرين كبار لردهات المحاكم كما هو الشأن  » لروجي جارودي   » صاحب كتاب   » الاساطير المؤسسة لدولة اسرائيل  »  , والذي شكك في وجود المحرقة التي استغلت لاستدرار العطف والظهور بمظهر الضحية  ما دامت  الغاية تبرر الوسيلة .

فالغرب الذي يتغنى اليوم بالدفاع عن حقوق الانسان بما فيها حرية التعبير والرأي , له صفحات سوداء في خرق هاته الحقوق والتضييق على ممارسيها ,  لذلك فمن الطبيعي ان تقتدي به  بعض الدول التي لازالت  تتلمس طريقها نحو الديمقراطية ,  تحت ذريعة محاربة الانحلال الخلقي , وتشجيع الفن النظيف الى غير ذلك من التسميات التي تحاول حجب الشمس بالغربال , لان الحكم هو القارئ او المشاهد الذي ليس محجورا ولا قاصرا بل هو شخص كامل الاهلية .  

 

 

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

1 Comment

  1. عبدالله
    11/03/2013 at 21:31

    في رايي ،فإن رائعة « فلوبير » هاته نحاول انتقاد الرومنسية لكنها لم تفلح ، و لو أصر الكاتب على وضع الأصبع على الداء عندما صور النتيجة الحتمية لأمرأة فتتناول الزرنيخ لوضع حد لحياتها..من يقرأ بتمعن فصول تلك الرواية ينجذب نحو العالم الذي صور ه لنا فلوبير من حيث لا يدري، و تلك لعمري هي الرومنسية بعينيها و التي تجعلك مأخوذا بغموضها ، و إن كنت تتوقع مأساويتها في الأخير،. و هي النهاية الحتمية لكل اندفاع عاطفي .ألم يصور لنا الكسندر دوما الإبن غادة الكاميليا بنفس الطريقة ، و بنفس الإحساس، و بنهاية مماثلة لنهاية رائعة فلوبير؟ألم يسر على نفس النهج برناردان دو سان بيير في خالدته « بول و فرجيني »؟ و كذا الشأن مع الفونس كارل في روايته  » تحت ظلال الزيزفون »؟
    و من يدري ؟فمحاكمة فلوبير كانت كرد فعل من الرومنسيين الذين كانوا متشبثين بهاته الرومنسية، و هي في نظري محاكمة أدبية و شكلية لا غير….
    أشكرك يا سيدي على تسليط الضوء على الأدب الأجنبي الذي كان رافدا للأدب العربي عبر مختلف الأزمنة

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *