روسيا في زمن الثورة العربية: لغة المصالح تفقدها دورها
حينما جاء الرئيس الروسي السابق فلادمير بوتين إلى السلطة خلفا لبوريس يلتسن مع اللحظات الأولى للقرن الحادي والعشرين، كان كثير من المراقبين يتوقعون أن تسير الأمور في مجراها الطبيعي الذي رسمه يلتسن قبل خروجه من السلطة .. لكن بوتين خالف كل تلك التوقعات وبدأ في وضع سياسات داخلية وخارجية مختلفة تماما. وكان الهدف الأول الذي يسعى إليه هو استعادة الأمجاد الروسية التي ضاعت ملامحها مع سقوط الاتحاد السوفيتي المروع.
كانت أبرز ملامح السياسة الخارجية الجديدة تتمثل في محاولة استعادة مناطق النفوذ الروسية في مناطق العالم المختلفة خاصة في دول الجوار التي كانت يوما جزءً لا يتجزأ من الاتحاد الكبير الذي بناه قادة الإيديولوجية الاشتراكية. ثم تحرك لدوائر أكثر اتساعا شملت عددا من مناطق العالم المختلفة كانت أبرزها منطقة الشرق الأوسط وقارة أمريكا الجنوبية اللتان كانتا من مناطق الصراع بين الشرق والغرب إبان الحرب الباردة.
في منطقة الشرق الأوسط حرص الرئيس بوتين على بناء علاقات قوية مع الكثير من دولها، تقوم بالأساس على لغة المصالح المشتركة .. وقام بزيارات مختلفة شملت العديد من هذه الدول التي كان من بينها دول كانت تعد ضمن الأعداء خلال فترة الحرب الباردة كالمملكة العربية السعودية.
وقعت روسيا مع هذه الدول اتفاقيات تعاون سياسي واقتصادي .. لكن الاتفاقيات الأهم كانت في مجال التعاون العسكري وتحديدا بيع أنواع مختلفة من السلاح الروسي لهذه الدول. وقد تحولت روسيا إلى ثاني أكبر مورد للسلاح في منطقة الشرق الأوسط بعد الولايات المتحدة، ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط بل في العالم كله. فوفقا لأحدث التقارير الصادرة عن معهد ستوكهولم لأبحاث السلام فإن روسيا تأتي في المرتبة الثانية عالميا بعد الولايات المتحدة في مبيعات السلاح في العام 2010 حيث بلغت قيمة مبيعاتها لهذا العام 10.4 مليار دولار.
وقد سعت روسيا للسيطرة على سوق السلاح في منطقة الشرق الأوسط في إطار خططها المستقبلية، خاصة مع تعاظم المخاطر والتوترات الموجودة في المنطقة. ونسجت علاقاتها مع النظم القائمة في هذه المنطقة على أساس لغة المصالح الجافة هذه الغير مطعمة بأيديولوجية تحميها من غلوائها كما فعل الاتحاد السوفيتي من قبل حينما استخدم هذا المزيج المهم من الأيديولوجية ولغة المصالح لاختراق العديد من مناطق العالم التي كانت حكرا على القوى الغربية ومنها منطقة الشرق الأوسط خلال فترة الحرب الباردة.
وبناءً على ذلك ارتبطت مجالات التعاون الأساسية بين روسيا والعديد من الدول العربية بالمجال العسكري سواء ما يتعلق باستيراد السلاح أو بالتعاون الفني المتعلق بهذا السلاح وعمليات صيانته وتطويره.
ولم يتم توسيع هذا التعاون إلى باقي المجالات الاقتصادية والسياسية، الأمر الذي ترتب عليه ارتهان الحسابات السياسية للدولة الروسية باستمرار لهذه المصالح مع هذه النظم . وهو ظهر بشكل واضح في العديد من الأزمات التي مرت بها المنطقة وأبرزها أزمة البرنامج النووي الإيراني ثم تسونامي ثورات الحرية والكرامة الذي يعصف حاليا بالكثير من الدول العربية.
في أزمة البرنامج النووي الإيراني حاولت روسيا استغلال الأزمة لتحقيق مكاسب إستراتيجية في مواجهة الولايات المتحدة والدول الغربية، بالرغم من الروابط القوية التي تربطها بالدولة الإيرانية خاصة في مجال التعاون العسكري بشقيه التقليدي والنووي. وانتهى الأمر بمقايضتها إيران في مقابل توقف دعم الغرب للدول التي تعتبرها جزءا من حيزها الحيوسياسي مثل أوكرانيا وجورجيا التي شنت عليها حربا طاحنة في عام 2008 ترتب عليها اقتطاع إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية وإعلان روسيا الاعتراف باستقلالهما.
وفيما يتعلق بالثورات الشعبية العربية، لم يختلف موقف روسيا كثيرا عن موقفها في أزمة البرنامج النووي الإيراني. فقد تحدد على أساس لغة المصالح التي تربطها بالنظم الحاكمة في هذه الدول، وبالتالي كان طبيعيا أن تتخذ موقفا مؤيدا لها في الباطن مع إعلان حيادها في العلن. وذلك خوفا على مصالحها الآنية والمستقبلية التي رسمتها في خططها مع تلك النظم.
فضلا عن ذلك تخشى روسيا من تأثر بعض الأقاليم الروسية بتلك الثورات العربية، خاصة تلك التي تطالب بالانفصال عن الاتحاد الروسي، كما هو الحال في منطقة شمال القوقاز الروسية التي شهدت خلال الأشهر الأخيرة تصاعد غير مسبوق في أعمال العنف على خلفية دعوات الانفصال. وقد أشار إلى ذلك صراحة الرئيس الروسي الحالي ميدفيديف الذي أكد في اجتماع طارئ للجنة مكافحة الإرهاب الوطنية بجمهورية أوسيتيا الشمالية « أن سلسلة الأحداث التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط سيكون لها تأثير مباشر على الوضع في روسيا ». ورأى أن هذه الأحداث قد تؤدي إلى تفكك دول الشرق الأوسط إلى دويلات صغيرة، وتوقع وقوع أحداث صعبة في المنطقة بما في ذلك وصول من سماهم متطرفين إلى السلطة، مشيرا إلى أن هؤلاء المتطرفين أعدوا مثل هذا السيناريو مسبقاً وأنهم سيحاولون تنفيذه. وأضاف أن هذا السيناريو لن ينجح في روسيا.
وكان الرئيس السوفيتي السابق ميخائيل غورباتشوف قد انتقد السلطات الروسية على ما أسماه انعدام حرية التعبير والانتخاب في البلاد، وحذر في حديثٍ صحفي من أن استمرار الأوضاعِ على حالها في روسيا سيزيد من احتمالات السيناريو المصري.
لكن هذا العامل على رغم أهميته لم يكن الحاسم في تحديد الموقف الروسي .. ذلك أن الشعب الروسي قام بثورات كثيرة في حياته آخرها تلك التي اندلعت مع انهيار الاتحاد السوفيتي السابق. وليس في وارد القيام بثورة جديدة في الوقت الراهن لأن الشعوب لا تقوم بثورات مستمرة.
إنما العامل المهم الذي على أساسه اتخذت روسيا موقفها من الثورات العربية، هو ذلك المرتبط بمصالحها الآنية والمستقبلية مع النظم العربية التي تتهاوى واحدا بعد الآخر ويتهاوى معها كافة العقود والاتفاقيات التي أبرمتها روسيا وضمنت بها تحقيق مصالح ضخمة لها.
وهو أمر سوف يجعلها تدفع سنوات طويلة من العمل الجاد والشاق مع النظم العربية الجديدة التي ستخرج من رحم هذه الثورات لاستعادة تلك المصالح مرة أخرى، ولكن وفق قواعد جديدة ستراعي خلالها مصالح الشعوب العربية التي ستمثلها النظم الجديدة بالفعل. وهو ما سيزيد من الصعوبات التي تقف أمام محاولة روسيا استعادة مكانتها تلك .. ففي الماضي كان من السهل توقيع الاتفاقيات مع النظم التي لا تمثل إلا نفسها والتي لا يوجد عليها أية ضغوط شعبية .. أما الآن فإن الشعوب هي التي ستوقع على هذه الاتفاقيات عبر ممثليها الحكوميين.
أحمد فوده
صحفي وباحث سياسي
elite_center2000@hotmail.com
Aucun commentaire