الفكر وتوابعه .
أكتب هذه الكلمات و أنا أسمع ضجيج و صخب بعض ممن احترفوا الكلام ، تجد الواحد منهم و العياذ بالله لو دافع عن الشيطان لأنصفه ، الأمة كلها تجمع على عدم جدوى المفاوضات مع الصهاينة و يريد مسببو الضجيج و الصخب إقناعنا بلغة منمقة بغير ذلك ؟؟…
الفكر زينة العقل و بهاؤه ، وميزان تعلم المرء، و هو الدال على الطريق الصحيح بين السبل العديدة المتعرجة ، و هو الفيصل بين أهل القدر و سواهم و قد تقرر في كتاب الله تعالى » قل هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون » ، لا مجال للمساواة بين من يدري و من لا يدري ، شتان بينهما …
غير أن هذا الفكر لوحده غير كفيل بأن يخط للأمة الطريق ، غير كفيل بأن يخرج الفرد و الجماعة من حالة الانحطاط في شتى المجالات ، بل هو أحيانا لوحده مجردا عن توابعه الأكيدة التي سأتحدث عنها لاحقا ، وبال على الأمة و ضياع لها و شتات ، و حسبنا مثالا على هذا الحركات التي تمارس الحرابة ( المصطلح القرآني لما يسمى الإرهاب) بتأصيل من الدين ، قتل و دمار باسم النقل ، الكتاب و السنة ( فكر) ، و ما أكثر » المفكرين » الذين لا يطبقون أفكارهم حتى على أنفسهم و أقرب الأقربين إليهم ، ما أكثر المنافقين القائلين للناس فكرا ما لا يعملون ، ما أكثر السابحين في فضاء الأفكار الحالمة ، أفكار العدل و تحرير الطبقات الكادحة من كدحها المبشرين بنعيم المساواة ، حتى إذا رقي أحدهم مرقى، مسئولا في مجال التنفيذ صار شخصا آخر و نسي ما كان يدعو إليه بالأمس ، ما أكثر آخذي الأمة إلى تاريخ إسلامي ، عهد الأخوة و المودة و المحبة … حتى إذا تمكن و لو من منبر التعبير أو تربع على قلوب الأمة المتطلعة لغد مشرق تلكأ فأول وبدل فإذا شعارات الأمس غير شعارات اليوم … مزلق خطير أن يحشى العقل أفكارا ، يفهم العقل غيرها تأويلا و تنفذ الجوارح سواها تبديلا ، و من هنا كان الحديث عن توابع الفكر أكيدا وضروريا وهي :
1 ـ الفهم : بعد أن تحط الأفكار رحالها بالعقل مهما كانت ، يعالجها الراغب في ألا تصير مجرد ترف فكري بميزان العقل ، مستحضرا مبادئه التي تأسس عليها و مرجعياته الضرورية ، من لا مبادئ له و لا مرجع فإنما يخبط خبط عشواء ، خبط المنافق الحاط رحاله اليوم هنا و غدا هناك ، هذه المرجعيات يجب أن تكون صحيحة واضحة ، ذاتية ، غير مستوردة من حال و تاريخ غيرنا ، لئلا يكون حال المفكر كحال من يروم غرس أرض وجدة بثمار البرازيل ، أو من يريد أن تلد له الفأرة غزالا ، ثم إن هذا العقل وظيفة قلبية » فتكون لهم قلوب يعقلون بها » بمعنى أن العقل لا يجب أن يكون تبع هواه ، تبع « الحداثة » و الانسلاخ ، و » الاجتهاد الحداثي » ، العقل تابع لما يستقر بالقلب من معاني الولاء و البراء ، معاني الحب في الله و البغض فيه ، معاني الاهتمام بحال المسلمين ، نازفا على حال الغثاء و الوهن ، و غيرها من المعاني القلبية المشروعة، مدركا ـ وهذه جد مهمة ـ لمقاصد الشرع ، وتغير الأحكام أحيانا بتغير الزمان و المكان ، هذا ابن تيمية يلاقي جماعة من التتار يشربون الخمر ، ينهاهم صاحبه ، أما هو فيمنعه قائلا ، إنما نهى الله تعالى عن الخمر لأنها تنهى عن الصلاة ، وهؤلاء إنما ينهاهم الخمر عن قتل المسلمين و سلبهم أموالهم، هذا الفهم اليقظ ، المدرك للمقاصد الكلية و علل الأحكام ، وسياسة الواقع ، الذي لا يفرط في المرجعيات و الثوابت كما أشرت سابقا ، و ينفتح على المتغيرات ، هو العقل المطلوب ، هو الوسط المحمود بين » الظاهرية » الجامدة على النقل ، الفاهمة منه الفهم المباشر ، وبين » التحررية » المنقطعة عن كل مرجعية ، الداعية إلى الارتماء في أحضان كل » جديد « ….
2ـ التنفيذ : من الطوام التي ابتليت بها الأمة اليوم ، بعد طامة الفهم الخاطئ ، الفصل بين العلم و العمل ، وقد لام الله تعالى المؤمنين على ذلك » يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون » اللهم إنا نعوذ بك من ذلك ، طامة كبرى أن يصلنا النقل متصلا بسنده إلى مصدر الشريعة ، و أن نفهمه الفهم السديد ، فنقف بعد ذلك مكتوفي الأيدي لا تقوم الجوارح للتنفيذ، طامة و أية طامة ، و للتنفيذ مستويات ، أرى أن حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم » من رأى منكم منكرا فليغيره ، بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان » قد حددها في ثلاث ، الفعل أولا ، وهذا يتطلب أن تكون في موقع الفعل ، ما يتعلق بذمة الفرد ، فكل فرد في موقع تنفيذه، وما يتعلق بالجماعة فمسئولو الجماعة في موقع التنفيذ ، بدءا بالأسرة إلى كل إدارة أو مؤسسة ، إلى الدولة… » كلكم راع و كلكم مسؤول عن رعيته … »، ثم القول ثانيا ، لمن ليس في موقع الفعل ، عليه أن يكون الحريص على ألا يحيد من هو في مستوى الفعل ، عن النقل و لا عن الفهم ، و لا يقعد عن التنفيذ ، من المهم أيضا أن يرشح نفسه ليكون أداة التنفيذ ، فكثير من المسؤولين يقعدون عن التنفيذ لعدم وجود أياد منفذة ، فيقول في صدد توضيحه بلسانه ، الحق من هنا و ها يدي معينة ، أما المستوى الثالث ، فلا مجال له اليوم في ظل غثائيتنا ، إنما تبرأ به ذمة الفرد أمام ربه يوم يلقاه ، فهو إيمان ، لكنه ضعيف ، بل أضعف بتوصيف رسول الله صلى الله عليه و سلم ، وإنما الأمة محتاجة اليوم لأولي الإيمان القوي اعتقادا و تنفيذا .
جعلنا الله تعالى من أهل الهدى و نور الفهم و الفعل السديد ، آمين
2 Comments
تحليل عميق و جدي، أتحفنا بمزيد من المقالات مع ربطها بالواقع وحوادثه المتجددة والمتسارعة.
بوركت أخي
عيدكم مبارك سعيد
بارك الله فيك أخي لخضر وزادك من فضله كل عام وأنتم بخير