صرخات طفل فلسطيني!
« آهِ, يا جيلَ الخياناتِ,
ويا جيلَ العمولات, ويا جيلَ النفاياتِ
ويا جيلَ الدعارة, سوفَ يجتاحُكَ- مهما
أبطأَ التاريخُ- أطفالُ الحجارة ».
من الأشياء
البديهية المتعارف عليها أن يقوم الأب
بحماية أطفاله, الا في فلسطين المحتلة
المنكوبة حيث نشاهد أمرا مغايرا لما
هو متعارف عليه, وهو قيام الطفل بحماية
والده, ويحاول ببراءة الطفولة وعفويتها
الوقوف في وجه جنود الاحتلال الصهيوني
البغيض ويمنعهم من اعتقال والده مكسور
الجناحين, ويصرخ بأعالي صوته صرخته
المدوية مخاطبا الجندي الصهيوني »يا
كلب يا سافل أريد أبي..أعطوني أبي »..انها
كلمات خرجت من حنجرة محروقة ومخنوقة,
حنجرة الطفل خالد الجعبري ابن
مدينة الخليل وعمره أربعة أعوام, الذي دافع
ببسالة وهو حافي القدمين لكنه كان مليئا
بعزيمة الرجال, في وقت شح فيه الرجال, وقف
وقفة الأسد محاولا منع الصهاينة من اعتقال
والده.
اختطف الجيش
الصهيوني أباه ، حتى أنه لم يعطوه الفرصة
ليبدل ملابسه, جرى خالد حول الجنود المدججين
بالسلاح، واشتبك معهم وهو يصرخ »بابا..بابا..بابا »..ظل
الطفل يصرخ لكنه لم يتوقف عن محاولة
تحرير والده, وفى لحظة ارتسمت الحيرة على
وجهه : ماذا يفعل؟,وأخيراً جرى حافي القدمين
خلف المجنزرة الصهيونية يحمل كيساً به
كسرة خبز، لعلها تسد جوع الوالد فى سفره
الذي ربما يطول.
انهم قتلة
الأطفال..أيديهم ملطخة بدماء أطفالنا
ونسائنا وشيوخنا وشبابنا..مجازر
لا تعد ولا تحصى ارتكبوها بحق أبناء
شعبنا الفلسطيني..مجازر رفض التاريخ
تسجيلها في محاضره من ضخامة وحشيتها..انهم
الصهاينة, قلوبهم كانت اقسى من الحجر، فصرخات
الطفل خالد لم تردعهم عن مواصلة الاعتقال
والاعتداء، بل بادر الجنود الى دفعه وسحب
يديه اللتين كانتا تمسكان بشدة في قميص
والده.
لقد اهتزت
ضمائر الأحرار في جميع انحاء المعمورة
لمشاهدة وسماع صراخ هذا الطفل,
الا أن هذا الصراخ تلاشى على
أعتاب التنسيق الأمني بين سلطة
رام الله والكيان الصهيوني, والحوار
المستمر بينهما للبدء في المفاوضات
غير المباشرة والمباشرة..مفاوضات
استمرت أكثر من عقدين من الزمن لم
تجلب لنا الا الدمار, واعترف بفشلها
صاحب كتاب »الحياة مفاوضات », وكبير
المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات.
ان صرخات
هذا الطفل لم تصل بعد الى
الحكام العرب, فهم موتى لا حراك لهم,
ولم تصل الى امارة غزة الاسلامية
صاحبة النصر الالهي.
وهنا صدق
الشاعر العربي الكبير أحمد مطر عندما
قال: »أمس اتصلت بالأمل..قلت له:هل ممكن؟,
أن يخرج العطر لنا من الفسيخ والبصل؟,قال:أجل..قلت:وهل
يمكن أن تشعَل النار بالبلل؟, قال:أجل..قلت:
وهل من حنظل يمكن تقطير العسل؟,قال: أجل..قلت:وهل
يمكن وضع الأرض في جيب زحل؟,قال:نعم، بلى،
أجل.. فكل شيء محتمل..قلت: إذن عربنا سيشعرون
بالخجل؟,قال: تعال ابصق على وجهي إذا هذا
حصل ».
نعم, لقد
أبكت حادثة الطفل خالد ملايين البشر,
وكلي ثقة بأنها لم تصل الى هذا
البيت الذي يقف على رأسه عمرو موسى..هذا
البيت الذي يدعو في كل عام الى اجتماع قمة
عربية..قمم تكتب قراراتها النهائية قبل
انعقادها, وصدق من قال فيهم:نولوهم ما يشتهون
خنوعا**أو خضوعا فكلكم تمثال.
لقد تمكن خالد
ببراءته أن يدرك بأن الوسيلة الوحيدة
لمنع الصهاينة من اعتقال والده هي المقاومة
وليس غيرها..وسيكبر خالد وستكبر معه
عزته وعزيمته وبطولته وسيدرك ما غفل عنه
القابعون في رام الله بأن المقاومة هي الطريق
الوحيد والأوحد لتحرير كامل التراب الوطني
الفلسطيني.
انه لمن
المؤكد بأن خالد وغيره من الأطفال
من أبناء جيله سيركبون سفينة غير
تلك التي يركبها صناع اتفاقيات الخزي
والذل والعار من كامب ديفيد وأوسلو
ووادي عربة..انهم سيبحرون في سفينة
يبحر فيها جنوب لبنان ومقاومته الباسلة,هذه
المقاومة التي كسرت وحطمت مقولة »الجيش
الذي لا يقهر ».
قصة هذا
الطفل وغيرها علمتنا بل أكدت لنا
بأن الاعلام الفلسطيني تبعي ولا
يقل ركاكة عن الاعلام العربي, فالاعلام
العربي بمجمله يفتقد الى الاستقلالية
ويتلقى أوامره من البيت الأبيض تماما
كما هم الحكام العرب..انه اعلام
لا يسمع ولا يرى الا في دائرة
لا يزيد قطرها عن متر واحد..انه
اعلام الذل والقحط والهوان.
وكما بدأت
مقالتي هذه بما قاله فارس الشعراء
العرب الراحل نزار قباني في قصيدته »أطفال
الحجارة »,أنهيها أيضا بصرخته المدوية
التي أطلقها قبيل رحيله »متى يعلنون وفاة
العرب »: »أنا..بعْدَ خمسين عاما, أحاول
تسجيل ما قد رأيتْ..رأيتُ شعوبا تظنّ بأنّ
رجالَ المباحثِ أمْرٌ من الله..مثلَ الصُداعِ..ومثل
الزُكامْ..ومثلَ الجُذامِ..ومثل الجَرَبْ..رأيتُ
العروبةَ معروضةً في مزادِ الأثاث القديمْ..ولكنني..ما
رأيتُ العَرَبْ ».
خالد الجعبري,
هذا الطفل الفلسطيني العنيد لن يجره لا
حكام العرب ولا مؤسساتهم, ولن تساعده حالة
الانقسام الفلسطيني, فلا أذن تسمع ولا عين
تبصر, فهو منسي كما مدينة الخليل.
يا أيها »الخالد »
يا خالد, قم واصرخ في وجوه من يظنون
أنهم أحياء وهم في قبورهم يتقلبون..اصرخ
لعل صراخك يهز طبلة اذانهم التي
لا تسمع الا ما يقوله سيدهم في البيت الأبيض »سود
الله وجهه »..اصرخ ولا تخف, فأنت البطل
وهم الجبناء:
أقتلوني فليس
حولي رجال**ودمائي كأنها صلصال..عذبوني
فجل قومي نساء**وكثير من النساء رجال..اسحبوني
على المذلة اني**في زمان تموت فيه
الفعال.
الصورة ربما
لا تعبر عن شكل من أشكال القهر
فى فلسطين وحدها، لكنها تفضح الواقع
العربي الطافح بالإنتهاكات، فكم طفل
جرى وراء أبيه وهو يُسحب من بين
أحضان أبنائه ليلاً فى دولنا الممتدة
من المحيط الى الخليج؟, ربما يقول قائل
هل كنا سنرى هذا الطفل لو كانت الحادثة
في احدى الدول العربية؟, وربما خالد الجعبري
وحده أنصفته الكاميرا فأظهرت فزعته، والباقين
ينتهكون ليلاً ، لكن ليل القهر ـ حتماً
ـ لن يطول.
تحية اجلال
واكبار الى كل الشهداء والمعتقلين والى
هذا الطفل الفلسطيني البطل الذي صرخ في
وجه عدوه اللعين »اتركوا أبــي » أقول:سامحنا يا خالد فنحن دبب
قطبية صفحت جلودنا ضد الحرارة.
Aucun commentaire