الطفولة والمراهقة وإشكالية التربية في الوطن العربي
الطفولة
والمراهقة وإشكالية التربية في الوطن العربي
ذ. بنعيسى
احسينات
إن
النتائج العديدة التي وصلت إليها الكثير من الدراسات العلمية في الربع الأخير من
هذا القرن، تؤكد أن التنمية ترتبط أكثر بالثروة البشرية، قبل أن ترتبط بالثروات
المادية التي يملكها هذا البلد أو ذاك الذي يسعى إلى التنمية. فالأطفال والشباب هم
أكبر طاقة فعالة في أي مجتمع. فإذا أعدت أحسن الإعداد، وعملت التربية على وقايتها
من المشاكل التي تعوقها على مسيرة التنمية والإنتاج الإيجابي البناء، فإنها تبشر
بمستقبل زاهر.
فإذا كان للأطفال والشباب هذه الأهمية، فحري
بنا أن نعرفهما معرفة علمية، حتى نستطيع توجيههما واستغلال قواهما في مجال تنمية
المجتمع نحو التطور والتقدم الذي هو مطمح هذا المجتمع. فرغم كون فترة المراهقة ذات
أهمية قصوى في حياة الشخص وفي حياة المجتمعات، فإن الدراسات النفسية العلمية الدقيقة،
لم تهتم بهذه الفترة من العمر كفترة نمو ذات خصائص ومميزات خاصة بها، إلا في القرن
الماضي. وهذا خلاف فترة الطفولة التي أولاها البحث العلمي اهتمامه قبل ذلك الوقت
بكثير، نظرا لارتباط هذه المرحلة بالاهتمام التربوي والتعليمي، وهو المجال الذي
شغل، منذ أقدم العصور، بال الآباء واهتمام المربين ورجال الدولة.
لقد
عرف الشاعر الإنجليزي وردت وورث الطفل في إحدى مقطوعاته، بأنه أب الإنسان.
وردد « فرويد » بعد ذلك أن الطفل أب الرجل. وهذه العبارة تشبه ما نادي
به بعض العلماء الأقدمين في مجال التربية، من أن الطفل هو عبارة عن » رجل
مصغر « . ويتفق هذا التعريف الأخير مع ما يقوله بعض علماء النفس التكويني، من
أن الطفل رجل مقبل، رجل في حالة النمو…هذه التعارف غامضة من جهة، وغير شاملة من
جهة أخرى، لأنها تقتصر على الجانب المورفولوجي(الوصفي) الظاهري. ومن الأفضل أن
نعرف الطفل بصورة أكمل، وعندئذ سنترك جانبا كل التعارف الفيزيولوجية، ونهتم بتعريف
يتضمن سلوك الطفل وأحاسيسه وميوله وألعابه… ولتوضيح ذلك، نلاحظ أن هناك أساليب
يتميز بها سلوك الطفل الصغير، بالمقارنة مع سلوك الراشد. ومن أهمها خصيتان أساسيتان :
الأولى : إن سلوك الطفل في الغالب سلوك عفوي تلقائي
ساذج، غير منظم، بعكس سلوك الراشد. إن كل ما يفكر فيه الطفل هو اللعب واللهو. ومن
الواضح أن لعب الراشد الذي هو نوع من الاستجمام والاسترخاء والبعد عن العمل، قصد
الراحة، شيء يختلف عن دوافع اللهو واللعب التي تتملك الطفل وتملأ عليه كل أوقاته،
بحيث يصبح اللعب عنده غاية في حد ذاته، بخلاف اللعب عند الراشد الذي هو وسيلة فقط.
الثانية : وتتمثل في أن الطفل عبارة عن قوة تنمو أو
كما يقول جان شاتو(أستاذ الفلسفة بتولوز بقرنسا سابقا) : إنه حركة تمضي إلى
الأمام أو بعبارة أحسن، إنها اندفاع نحو الرشد، إلى مجتمع الراشدين. نجده مثلا في
سن ما قبل المدرسة، يحاول أن يشارك الكبار في مجالسهم، كما يحاول أن يقلد أخاه
الأكبر أو أباه. كذلك فإن البنت الصغيرة تحاول من جهتها أن تقوم بأعمال المنزل والطبخ…
إلا أن هذا الاندفاع يأخذ صورا أخرى غير منظمة. إذ أننا نجد الطفل الصغير يقوم
بأعمال كلها حركة لامبالية. إن هذا الاندفاع الأول هو وسيلة الطفل من أجل أن يعيش
وراء حدود نفسه. ومن هنا، يبدأ أول اصطدام بين الطفل والكبار. فالطفل، بحكم خصائص
نموه، يود أن يعيش بعيدا عن حدود نفسه، ولكن سرعان ما يجد الحواجز التي يخترعها
الكبار للإحاطة بالطفولة المندفعة المتحركة، بدعوى تحسين حمايتها. وهنا تكمن
الطامة الكبرى، لأن هذا التدخل المبكر من طرف الكبار في هذه المرحلة من مراحل
العمر، والتي تعرف بأنها حركة إلى الأمام، يحرم الطفل من خاصية الاندفاع والرغبة
في البعد عن طريق ممارسة اللعب بأشكاله المختلفة، فيتحول هذا العمر من الأمل
والأحلام، إلى التألم والإحباط والدخول في العالم الحقيقي بمسئولياته وأحداثه قبل
الأوان. إن الإنسانية الحق هي أن يمارس الإنسان طفولته بخصائصها الحالمة. وبدون
هذه الخصائص، يعيش الإنسان حياة متمزقة، يابسة طوال عمره. إن ترك الطفولة، كما
يقول أحد علماء النفس، هو التيبس، بل هو التألم والدخول في العالم الحقيقي بما فيه
من منافسة وعمل شاق وصراع وإحباط وقلق بدون مقدمات.
لذا، فالطفل وحدة معقدة التركيب، له خاصيته
وخبراته المعقدة. ومما يجعل التجربة العلمية شبه مستحيلة، هو أن الطفل وبيئته
يتغيران من يوم إلى آخر. ولا غرابة أن يقول ثورندايك : » إن دراسة طفل
واحد فقط وتحليل شخصيته، أمر صعب جدا، يتطلب جهودا جبارة لا تقل عن تلك الجهود
التي تتطلبها دراسة قارة بكاملها من الناحية الجيولوجيا « .
وأخيرا، إن الطفولة تمثل أهم المراحل التي تمر
بها حياة الإنسان. ففيها يكون أكثر استعدادا وميلا للتقبل والتعلم والابتكار. فهو
يرى ويسمع ويفهم ويذوق، ويحاول اكتشاف العالم الذي يعيش فيه من خلال الأدوات
والوسائل التي تتوفر له وتكون في مستوى تفكيره.
إن كتب التربية الحديثة، تنصح أن يترك الطفل
يتعامل مع طعامه بأصابعه، لأنه يحب أن يتذوق الأشياء ويفهمها بحواسه مجتمعة. ونعرف
بالممارسة أن الطفل يحب الملموس. لذا، يجب أن تحل السماحة والمرونة، مكان التزام
الكبار بالتأديب والنصيحة الأخلاقية الجوفاء، والتحريض على التهذيب القديم. وعلى
هذا الأساس، نفهم صرخة روسو الشهيرة : » تعلموا كيف تعرفون أطفالكم،
فإنكم بالتأكيد لا تعرفونهم بالمرة « . لذا ،فالطفل، باعتباره فرد له مميزاته
الخاصة، متحركة لا ثابتة، وهي تسير دائما في اتجاه النمو والتكامل، بتعاون جميع
المظاهر الجسمية والانفعالية والعقلية والاجتماعية التي تعمل ككل منسق، لا انفصال
بينها.
إن ما يجب
على الطفل اكتسابه قبل كل شيء، هو التأكد من أن شخصا معينا يحبه حبا عميقا.
ولكن هذا الحب وحده غير كافي. فيجب علينا
أن نعلمه أيضا أن يرى حسنا وأن يسمع حسنا وأن يتكلم جيدا، كما يجب أن نعلمه الوصول
إلى الأشياء القريبة والبعيدة. ولابد له أيضا من الاحتفاظ بحب استطلاعه في استكشاف
العالم الخارجي. في كل هذا، يبدو أنه ينمو دون مشقة في غالب الحالات، حتى لو فرضنا
أن الوالدين لم يتلقوا أي ثقافة خاصة أو أي عون خارجي. لكن بعد أن يبلغ الطفل
الشهر السادس، يدخل في مرحلة خطيرة من حياته، وذلك حينما يبدأ الانتقال وحده. إن
الطفل الذي يحبو يتعرض لحوادث مؤلمة، فهو يستخدم فمه لاستكشاف العالم ويميل إلى
بلع أشياء قد تسبب له الضرر.ثم أن حركاته لا تزال غير متناسقة. ولما كان مسكنه لم
يصمم من أجله، فهو فقط ضيف شرفي أو زائر ثقيل على الأسرة. فكثيرا ما يتعرض هذا
الطفل إلى أخطار كثيرة. وبالتالي فإن الآباء يميلون إلى تقليل نشاطات الاستكشاف
لأطفالهم الصغار. ولكن ليست هي الطريقة المثلى والأكثر فعالية في مساعدة أطفالهم
على تنمية كفاءاتهم الطبيعية على خير وجه. ومن الواضح تماما أن أول معلم للطفل هو
ذويه بالذات. وهم إجمالا غير معدين الإعداد الحسن للقيام بهذا الواجب الهام جدا،
ألا وهو تلقينه تربية حسنة منذ البداية. لقد أثبتت أبحاث قريبة العهد، أن الآباء
لو تلقوا التدريب والمساعدة قبل ولادة الأطفال وخلال فترة ما قبل المدرسة، لاستفاد
الأطفال كثيرا من تجاربهم الأولى، ومن أولى تدريبهم على أصول التربية. لذا فعلماء
التربية وعلماء النفس والاجتماع، مقتنعون
كل القناعة على أن نبدأ بتربية الكبار أولا وقبل كل شيء، لأننا نجد أطفالا عسيرين
في وسط يكون فيه الكبار عسيرين، ولا يتحملون المسؤولية. وفي الواقع لا يكون الطفل
العسير، في أغلب الأحيان، هو المسئول عن وضعه الخاص، ولكنه يصبح عسيرا بسبب سوء
حظه فقط. أما السبب الحقيقي لكونه طفلا
عسيرا، فيعود إلى سوء تربيتنا العامة.
لنستمع إلى عبدالعزيزالقوصي وهو يحدثنا قائلا : » فلنتعلم من أطفالنا « ، وهو يتساءل : » هل
يفيدنا الأطفال كما نفيدهم، إذا كنا حقا نفيدهم ؟ وهل يعلمنا الأطفال كما نعلمهم،
إذا كنا حقا نعلمهم ؟ وهل يربينا الأطفال كما نربيهم، إذا كنا حقا نربيهم ؟ »
لقد تناول القوصي الجواب على هذه الأسئلة من الجانب المعرفي فقط، ورأى أن
للطفل منطقه الخاص السديد وقدرته على الإبداع وحاجة طبيعية إلى استكشاف العالم
حوله من خلال التجريب. فالطفل إذن عالم منطق ولغة، وفنان مبدع وعالم تجريبي. وهذه
المواهب مغروسة في فطرته. وإذا كان الأمر كذلك، يقول القوصي : »
فلنترك له حرية العمل، ولنقلل من تدخلاتنا، ولنتعود الاستماع للطفل. فقد يكون لديه
من الحكمة ما يغيب عنا أو ما يفوق حكمتنا ». ولكن المشكلة هي أن الراشدين لا
يعرفون فن الإصغاء لأساتذتهم الأطفال، فتضيع منهم دروس رفيعة في المنطق والفن
والعلم الطبيعي وغير ذلك من ميادين المعرفة، بل الأمر يتفاقم عندما يذهب الطفل إلى
المدرسة. فإن أول ما نفعله هو أن نمنعه في الفصل من التحرك ومن الكلام، ونرغمه على
الجلوس والاستماع والطاعة. فبعد أن كان باحثا إيجابيا بناء، يصبح مستقبلا سلبيا،
ويكون هداما ميالا إلى الانتقام بسبب ما حرم منه.
فالطفل في سنواته الست الأولى، مزود بخامات
طبيعية أودعها الله فيه، وهي كفيلة لبناء إنسان المستقبل بناء شامخا رصينا. وكل ما
نعمله نحن الكبار، أن نحد من طاقاته ونشاطه، ونحرمه من هذه الخامات بحجة أننا
نعلمه الضبط والانضباط والتهذيب. علينا أن نأخذ من أطفالنا وأن نعطيهم، وأن نقف
منهم موقف محاور عادي متوازي. وعلينا ألا نخدع أنفسنا بأن نقول: إننا سننزل إلى
مستواهم، بل علينا أن نصعد إلى مستواهم، وأن نتعلم منهم كيف نتعامل معهم حتى
نساعدهم في تنشئتهم في مناخ يتسم بالديمقراطية والحرية وتحقيق كرامة الإنسان.
أما فيما يتعلق بالمراهقة، فإنه من الصعب
تحديد مفهوم هذه المرحلة تحديدا دقيقا. إنها عملية صيرورة ونمو، وتغير مستمر، أكثر
منها مرحلة محددة وثابتة.
وهذا النضج والنمو والتغيير، يشمل جميع
جوانب شخصية المراهق الجسمية والعقلية والوجدانية والاجتماعية، والتأثير المتبادل
بين هذه الجوانب. وباعتبارها صيرورة إنمائية داخل دورات الحياة، لها وحدتها
وقوانينها ومشكلاتها ودورها، تخضع في جانب كبير منها إلى حلقات النمو السابقة من
جهة، وتؤثر في المراحل اللاحقة من جهة أخرى. فالطفولة تؤثر في المراهقة، وهذه
الأخيرة تؤثر في الرشد. وليست أعمالنا ومشاغلنا في سن الرشد سوى تطبيقا لمخططات
المراهقة في كثير من الأحيان.
لنركز هنا على المشكلات الانفعالية عند
المراهق باعتبارها المحدد الأساسي والخطير
لحياته ،
فهي مرتبطة بمجموعة من المثيرات التي لا يستطيع بعد أن يواجهها مواجهة، تتم عن
تكيف أو قدرة التلاؤم مع بعض الضغوط المحيطة به، لأنه ما زال بحاجة إلى نضج انفعالي
أكثر، على أن هذا النضج سيزداد بازدياد تقدمه في السن، بحيث يصبح قادرا على
التحكم، ليس في المظاهر الخارجية للانفعال فحسب، وإنما أيضا في محاولة تفهم مختلف
المواقف ذات التعبير الحي المادي، مثل كسر ما يقع تحت يده والصراخ والبكاء…
وكثيرا ما نلاحظ أن المراهق(نطلق
مفهوم المراهق على الذكور والإناث) كلما تقدم في مرحلة المراهقة، إلا ويلجأ
أكثر إلى التروي والتفكير السليم، بقدر الإمكان. ويحاول الابتعاد عن كل المواقف
التي تثير حساسياته الانفعالية، وتسبب له القلق، على أن نضجه الانفعالي، لا يمكن
أن يتم بمعزل عن الوسط الاجتماعي المتفهم الذي يساعد على ذلك. فالآباء والمدرسون
والرفاق والأصدقاء وزملاء الدراسة، هم بوجه خاص، المصدر الأول والأساسي للنضج
الانفعالي الصحيح. وبقدر وعيهم ومعرفتهم بالحاجات النمائية بهذه الفترة الهامة من
فترات النمو، بقدر ما تنمو الانفعالات بشكل سوي وعادي.
فهؤلاء جميعا، وبخاصة المربين، لا مندوحة
لهم من معرفة التغيرات العضوية التي تطرأ على المراهق في بداية البلوغ، والتي تعد
مصدر قلق كبير، حيث يقضي المراهق وقتا كبيرا وهو يتأمل ويفكر في سرية تامة، عما
لحق بجسمه وانفعالاته من تغيرات، دون أن يجد ، في كثير من الأحيان، من يوجهه
ويرشده، على أن المدرسة التي ينتظر منها المساعدة، كثيرا ما تخيب آماله، وتغدو
بدورها، إلى جانب الأسرة غير الواعية بحاجاته، مصدر قلق وحيرة، مما له تأثير واضح
على نمو شخصيته وعلى تحصيله الدراسي، لأنه يصبح فريسة الاضطراب والتخيلات
والأوهام…
إن ثروة الشعوب لا تقاس بما تحويه تربتها من
كنوز طبيعية، بل بمدى صقلها لمواهب
أطفالها وشبابها، ومساعدتهم على التوافق الصحيح كي ينشئوا نشأة صالحة ويسهموا في
التقدم وإنشاء حضارة. ولا يتيسر الإنتاج إلا إذا ربي الأطفال والشباب تربية قوامها
الفهم الصحيح والأمن النفسي والحرية في غير فوضى والتفكير المتفتح المرن. وهذا لا
يتأتى إلا في تطبيق القاعدة الذهبية التالية :
توجيه من غير عـنف،
وإرشاد من غير نـهي،
وتشجيع من غير لـوم.
لذا يمكن أن نقولمع أحد الفلاسفة الصينيين، في القرن الثالث قبل الميلاد : » إذا وضعتم
مشاريع سنوية، فازرعوا القمح. وإذا كانت مشاريعكم لعقد من الزمن، فاغرسوا الأشجار.
أما إذا كانت مشاريعكم للحياة بكاملها، فما عليكم إلاأن تُنشِئوا
وتعلموا الإنسان « .
______________
ذ. بنعيسى احسينات
Aucun commentaire