\’فقه التغيير\’ \’قول على قول\’: \’التيه\’
« …إنَّ إصلاحَ الأمم بعد فسادها بالظلم والاستبداد، إنَّما يكون بإنشاء جيلٍ جديدٍ يجمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها… »
قال الله تعالى: « قال فإنها محرمة عليهم. أربعين سنة. يتيهون في الأرض، فلا تأس على القوم الفاسقين » (المائدة: 26).
قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله: « … ونقول كلمة في حكمة هذا العقاب، تبصرة وذكرى لأولي الألباب.. إنَّ الشعوب التي تنشأ في مهد الاستبداد، وتُساسُ بالظلم والاضطهاد، تفسد أخلاقها، وتذل نفوسُها، ويذهب بأسُها، وتُضرَب عليها الذلةُ والمسكنة، وتألفُ الخضوع، وتأنسُ بالمَهانة والخُنوع، وإذا طال عليها أمدُ الظلم تصير هذه الأخلاقُ موروثةً ومكتسبة، حتى تكون كالغرائز الفطرية، والطبائع الخُلُقية، إذا أخرجْتَ صاحبَها من بيئتها، ورفعتَ عن رقبته نيرها، ألفيتَه ينزِع بطبعه إليها، ويتفلَّتُ منك ليقتحم فيها، وهذا شأنُ البشر في كلِّ ما يألفونه ويجرون عليه من خير وشر، وإيمان وكفر…..
…
أفسد ظلمُ الفراعنة فطرةَ بني إسرائيل في مصر، وطبعَ عليها بطابع المهانة والذل، وقد أراهم اللهُ تعالى ما لم يُـرِ أحداً من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته وصدق رسوله موسى عليه السلام، وبيَّن لهم أنَّه أخرجهم من مصر لينقـذهم من الذل والعبودية والعذاب، إلى الحرية والعزِّ والنعيم، وكانوا على هذا كلِّه إذا أصابهم نصَبٌ أو جوع، أو كُـلِّفوا أمراً يشقُّ عليهم، يتطيرون بموسى ويتململون منه، ويذكرون مصرَ ويحِنُّون إلى العودة إليها!، ولما غاب عنهم أياماً لمناجاة ربه اتخذوا لهم عجلاً من حُـليِّهم الذي هو أحبُّ شيء إليهم وعبدوه! لِما رسَخ في نفوسهم من إكبار سادتهم المصريين وإعظام معبودهم (أبيس)، وكان اللهُ تعالى يعلم أنهم لا تطيعهم نفوسُهم المَهينةُ على دخول أرض الجبارين، وأنَّ وعده تعالى لأجدادهم إنما يتمُّ على وِفق سنته في طبيعة الاجتماع البشري إذا هلك ذلك الجيل الذي نشأ في الوثنية والعبودية للبشر وفساد الأخلاق، ونشأ بعده جيلٌ جديدٌ في حرية البداوة، وعدلِ الشريعة ونورِ الآيات الإلهية، وما كان اللهُ ليهلك قوماً بذنوبهم، حتى يبين حجته عليهم، ليعلموا أنه لم يظلمهم وإنما يظلمون أنفسهم، وعلى هذه السُّـنَّة العادلة أمر الله تعالى بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة، بعد أن أراهم عجائب تأييده لرسوله إليهم، فأبوا واستكبروا فأخذهم الله تعالى بذنوبهم، وأنشأ من بعدهم قوماً آخرين، جعلهم هم الأئمة الوارثين؛ جعلهم كذلك بهممهم وأعمالهم، الموافقة لسنته وشريعـته المنزلة عليهم ».
… ثم قال رحمه الله … »إنَّ إصلاحَ الأمم بعد فسادها بالظلم والاستبداد، إنَّما يكون بإنشاء جيلٍ جديدٍ يجمع بين حرية البداوة واستقلالها وعزتها، وبين معرفة الشريعة والفضائل والعمل بها.
وقد كان يقوم بهذا في العصور السالفة الأنبياءُ، وإنما يقوم بها بعد ختمِ النبوة ورثةُ الأنبياء، الجامعون بين العلم بسنن الله في الاجتماع، وبين البصيرة والصدق والإخلاص في حبِّ الإصلاح، وإيثارِه على جميع الشهوات » (تفسير المنار).
واستطرادا:
1) ـ التيه كان ضرورة ليرتقي القوم لمستوى الرسالة، كي تتغير نفوسهم وطباعهم، فالرسالة لا تُصلِح ولا تَصلُح لمن فقد بوصلة الحياة، وصارت الذلة والعبودية طبعاً له. وهؤلاء كان معهم رسول، ومع الرسول كتاب رباني، فيه منهج للحياة، ومع ذلك لم يشفع لهم كل ذلك، ولم ينفعهم كل ذلك! لماذا ؟! لأنَّ الرسول لا ينجح بين العبيد، والمنهج الرباني لا يرتقي بمن فسدت أخلاقهم بالظلم والاضطهاد. ولكن عندما غيَّر الـتيهُ نفوسَ القوم، وصاروا مؤهلين لحمل الكتاب والمنهج حملوه، وجديرين بدخول الأرض المقدسة دخلوها، مع أنَّ موسى عليه السلام كان قد مات في التيه، مما يدلُّ على عدم ضرورة وجود الرسول بعد قيامه بالتبليغ لحمل المنهج، وللجدارة بوراثة الأرض.
وهذا يفسر التيه الذي نعيشه بالرغم من وجود كتاب ومنهج، ورسول وسنة ! وهذا يفسر نقص الفاعلية أو انعدامها في جهود الإصلاح، وعجزها عن تحـقيق النتائج المرجوة خلال العقود السابقة! أو دعني أقول: خلال القرون الماضية!
2) ـ والسبب في ذلك كما تعلمنا الآية، أنَّ البداية يجب أن تكون بإعادة إنسانية الإنسان إليه، قبل الحرص على تعليمه تفاصيل المنهج، لأنَّ المشكلة ليست في الجهل، ولا في بعض الانحرافات، فالإنسان الفعال الحر يستطيع تحقيق أهدافه في الحياة بصرف النظر عن العقيدة التي يتبناها، فالمسألة مسألة أسباب، من أخذ بها سيحقق مراداته، فعلى هذا أقام الله سبحانه وتعالى الدنيا.
3) ـ نعم … البداية تكون بتقديم المنهج للإنسان، ولكن السؤال المهم هنا: هو في الكيفية، إذ عندما يكون الإنسان كما كان بنو إسرائيل، وكما نحن الآن، لا تكون البداية في الحرص على جعله يصلي قبل أن نعيد الحياة إليه، وعلامات الحياة: إعادة الشعور بالعزة إليه، وتعليمه على رفض ظروف القهر، وتفهيمه أن استحقاق منزلة وراثة الأرض إنما تكون بهمته وعمله الموافقة لشريعته المنزلة عليه، وإقناعه أن التغيير المنشود لا يكون بانتظار المهدي أو أي مخلص آخر، فالمهدي لن ينجح مع جيش من العبيد، ومجموعة من المقهورين، والمخلص لو جاء حقاً فسوف نقتله ما دامت حالتنا هذه الحالة!
4) ـ أقول لكم ما هي المشكلة ـ كما أعتقد ـ: إنها في أننا نسعى لإحداث التغيير بنفس الظروف التي كانت سبب المشكلة! إنك لا تستطيع إعادة الحياة للعالم الإسلامي بنفس الإنسان الذي صنع التخلف. إن المشكلة في الإنسان من داخله، وكل الظروف والعوامل التي هي خارج حدود النفس البشرية لها أثرها، لكنها في النهاية ليست هي المعتمدة في تفسير المشكلة، وأي بداية تنطلق من هذه العوامل ستنتهي بالفشل، وسيفشلها ذلك الإنسان الذي يعاني من فقد إنسانيته.
5) ـ لا يمكن ـ بحسب فهمي ـ أن يعيد القدس ذلك الجيل الذي ضاعت على يديه، أو الجيل التالي الذي لا يختلف كثيراً عن سابقه، ولا يغرنك زيادة نسبة التدين، أو حالة ما يسمى بالصحوة الإسلامية، فالذين كانوا مع موسى عليه السلام كانوا يؤمنون بالله تعالى، ويصدقون بموسى عليه السلام، ويصلون، ويسبحون الخ.. السلوكات الظاهرة، ولكنهم كانوا مسحوقين، كانوا لا يزالون يعيشون حالة العبودية وإن خرجوا منها في الظاهر، فبجرد إحساسهم بالجوع أو ضيق الحياة يلومون موسى عليه السلام على إخراجهم من مصر، فهم يفضلون العبودية مع الطعام والشراب، على حياة العز والحرية مع قليل من شظف العيش!
فهل نختلف عنهم؟ كيف؟ ونحن نثور ـ أحيانا ـ من أجل رغيف الخبز، وكل المآسي التي نجلس عليها لا تهزُّ لنا قصبة، ولا تحرك فينا شعرة؟! والمأساة التي تحركنا هي المأساة الجديدة، ثم لا نلبث أن ننساها، ونضيفها إلى جبل المآسي التي نجلس عليها، وخصومنا يعرفون هذا الخلق فينا لذلك تراهم يسمحون لنا بالتعبير والتنفيس لحظة الحدث لأنهم يعرفون أننا سنبرد بعد قليل وكأن شيئاً لم يكن .
6) ـ وهل نختلف نحن؟ ونحن لا نعيش الظلم فقط، بل ندافع عنه، بل « ونُشَرْعِنُهُ »، ومن بعدُ نُسوِّقه على أنه الوضع الأنسب، خوفاً من أن يأتي وضع (أوسخ منه)!
7) ـ وتبلغ المأساة قمتها لأننا نجمع في نفس الوقت ثالوثاً يكفي واحد منه لسحق أي أمة، فكيف وقد جمعنا الثلاث: فقد انضاف لذلنا، وقهرنا، جهلنا بديننا كما هو، وجهلنا بسنن الله في الاجتماع، ثم أننا تشبعنا بثقافة محرفة على مدى قرون نسميها كما سماها مالك بن نبي رحمه الله : ثقافة قاتلة، أورثت هذه الثقافة تدينا منحرفاً، أصبح ـ أي هذا التدين ـ هو بذاته من أهم عوامل الفساد والانحطاط ! ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إننا نعيش حالة فسق مع أننا نتدافع على أبواب المساجد، ونملأ عرصات عرفات، إننا نعيش حالة فسق ما دام الذي يبنون المساجد هم أنفسهم الذين يُسهمون في نشر الفاحشة بين المسلمين! إننا نعيش حالة الفسق ما دمنا أذلاء مقهورين راضين بالظلم… هكذا يجب علينا أن نفهم الفسق، إذ هكذا أرادنا الله سبحانه أن نفهمه، ولذلك فإنني أقول لكل من يعجب، أو يسوؤه الحال، أقول له كما قال ربنا عز وجل: « فلا تأس على القوم الفاسقين ».
Aucun commentaire