Home»International»الغرب والفراغ القاتل

الغرب والفراغ القاتل

0
Shares
PinterestGoogle+

الغرب، والفراغ القاتل

بقلم: عبد المجيد بنمسعود
يقف الناس أمام المدنية الغربية منبهرين، يشرئبون إلى مظاهرها من موقع سفلي، فترتد إليهم أبصارهم خاشعة كليلة، يتطلعون إلى بناياتهم الفخمة وتأخذ بألبابهم أضواؤها الساطعة، ويبهرهم كل ما ينتهي إلى أسماعهم ويتراءى لأبصارهم من المكاسب العلمية والمنجزات التقنية، يقعون تحت سلطان تلك المظاهر والتجليات، فينتابهم إحساس طاغ بالدونية، ويداخل الكثيرين منهم اقتناع بضرورة الانقياد للغرب، على اعتبار أنه أستاذ البشرية ورائدها نحو التقدم والسعادة، وعلى اعتبار أن كل ما خرج من جعبة الغرب لا يمكن أن يكون إلا مستساغا ومقبولا ومعقولا، حتى ما كان يبدو من ذلك غير معقول من أفكار طائشة سوداء، وممارسات شاذة عرجاء. وقد تأكد هذا المظهر الغريب للتبعية على لسان واحد ممن اعتبروا من رواد النهضة ورسل التغيير والتحديث في العالم العربي وهو طه حسين عميد الأدب العربي الذي دعا بحرارة إلى اقتفاء أثر الغرب وتبني نمطه الحضاري خيره وشره، حلوه ومره. إنه بالتعبير النبوي الشريف الدخول إلى جحر الضب، وإنها العبودية للغرب والانبطاح أمامه في خنوع وانكسار.
إ

ن هذا القطاع العريض من المستلبين على اختلاف شرائحه، يستشعر في أعماق كيانه ذلك الإحساس بالدونية، والرغبة الجارفة في الانسياق وراء الغرب، وهو لا يدري أنه بإزاء هيكل فارغ، أو شجرة تبدو يانعة للمطموسين وهي منخورة الداخل آيلة إلى السقوط ولو بعد حين!.
إن هذا الغرب الذي يمنح كل ذلك الإعجاب والتقديس، يفتقد إلى الإحساس بالفرح، وإلى الإحساس بجدوى الحياة، فينطلق وراء موجة عاتية وتيار هادر جارف من الإنتاج المزيف، ومن الاستهلاك الأهوج الذي يصبح الإنسان في خضمه مجرد مطية ذلول لحشد كثيف من العقد النفسية والإفرازات المرضية، تجعله في حالة استنزاف حاد، يذوق من جرائها ألما مريرا وشقاء طاغيا وحزنا دائما.
إن أبلغ تصوير يصور لنا حالة الإنسان الغربي المتأزمة ويرسم لنا ملامحها القاتمة يتمثل في التشبيه الذي يمثل به أحدهم حياة الإنسان الوجودي (المادي عامة) بالكلب الذي يلهث ويجري محاولا أن يمسك بذنبه، فلا هو يمسك بذنبه ولا هو يكف عن الجري! إنها الدوامة المفرغة التي لن ينفك الغرب من مدارها المحرق، إلا بالرجوع إلى عالم الفطرة ومعينها الذي يضمن لها التفتح والإيناع والاغتناء.
إن من أغرب الغرائب أن يبصر المنبهرون بالغرب أضواء ناطحاته وأبراجه وبريق واجهاته، ويسمعون هدير آلاته ومنشآته، ولكنهم لا يبصرون صور مأساته ولا يسمعون أليم آفاته، ولا يكشفون عن خبث سريرته وسواد أياديه!، خاصة وأنها قد أصبحت اليوم ظاهرة مسفرة بعد أن ظلت إلى عهد قريب مغلفة مستترة، لا يظهر عليها إلا العارفون لطبائع الشعوب وأسرار الحضارات.
إن من يتعمق وجود الإنسان الغربي، لا يتردد في الحكم عليه بالاغتراب عن حقيقته وجوهره، بسبب الضلال عن الحق والافتقار إلى الميزان الذي يميز به الحق من الباطل. إن المتأمل لسير الغرب الحضاري لا يتردد في أن من المؤشرات التي تختزل حقيقة الغرب وتلخص هويته النفسية والحضارية، الظاهرة الإشهارية.
فهذه الظاهرة تكشف لنا عن خبيئة روحه الفارغة التي تفتقد إلى لذة الفرح العميق المرتبط بحب الفضيلة ونبذ الرذيلة.
فالإعلانات الإشهارية التي تفرغ حمولتها المنتنة صباح مساء في الكيان النفسي للإنسان الغربي، مبشرة إياه بما جد في عالم الإنتاج الاستهلاكي، لا تكتفي بعرض المنتوجات والوسائل الموفرة لمزيد من لذة الاستمتاع، بل إنها لتتذرع إلى ذلك، بالعزف الشيطاني على أوتار الغريزة الحيوانية الهابطة، فيقترن كل شيء لدى الإنسان الغربي بغريزة الجنس التي تشخص في مشاهد شهوانية مغرية، فيترتب عن ذلك تسعير لشهوة الجنس وتكريس لاستغلال المرأة وابتذالها إلى درجة أنها أصبحت أحط من السلعة التي تروج باسمها، كما يترتب عن ذلك – وهذا جوهر وجود المؤسسة الرأسمالية العالمية- تأجج في اندفاع الإنسان الغربي نحو استهلاك أي شيء يعرض عليه، دون أدنى مقاومة تذكر لسلطان الإغراء والتزيين، مادامت بذور تلك المقاومة معدومة لديه، بفعل مسلسل الترويض والتهجين.
ويضاف إلى نزعة الإنسان الغربي نحو الاستهلاك العاري من أي قصد أصيل، نزعته إلى اللهو واللعب الذي أصبحت له مؤسساته الكبرى التي ينفق عليها الأموال الطائلة، من سيركات ومسارح وملاعب رياضية ومركبات ترفيهية يتوخى من خلالها تصريف شحنات القلق والسآمة، وطرد شبح السوداوية والاكتئاب الذي يواجه الإنسان الغربي بكل إلحاح، ولكن هذه المحاولة تظل بدون جدوى، لأن هذه المظاهر على تنوعها والتفنن في أشكالها وأساليبها، لا تتجاوز القشرة السطحية للنفس، فتظل بعيدة كل البعد، عن ملامسة شغاف الفطرة وإشباع أشواق الروح البعيدة الغور.

وفي سياق لهاثه الطويل وتيهه الدائم بحثا عن التنفيس، يلجأ الإنسان الغربي إلى مسلك آخر أكثر غرابة، يتمثل في محاولة الالتصاق بالحيوانات الأليفة كالقطط والكلاب، يتقرب إليها ويتمسح بها طالبا عندها جرعات المودة والحنان التي افتدقها عند بني جلدته. وهكذا يظل يحفر ويحفر، تلفه الحيرة ويكتنفه الخوف والغموض، فلا يجد بدا في نهاية مشواره الشقي من أن ينهي حياته بالانتحار، بعد أن ينقض عليه اليأس بأنيابه الحادة ويلتهمه بغير رحمة، فيداخله إحساس بأن هذه الحياة لم تعد تستحق أن تعاش، ولسان حاله يردد في ارتجاف « الآخرون هم الجحيم » وهي العبارة التي صدرت من سارتر الوجودي الملحد.
إن المشهد الدرامي الذي يعيش فصوله الإنسان الغربي، ما كان ليحجب عنا فضائله ويغض من بعض إيجابياته، كحب العمل والإصرار على تطويع المادة واستخراج كنوزها وطاقاتها والكشف عن خباياها وأسرارها وغير ذلك، غير أن تلك المزايا وغيرها لا تخرج من النفق المظلم الذي تمثله النظرة المادية للحياة بكل امتداداتها الشوفينية والأنانية التي تنظر إلى الإنسان الغربي ككائن أعلى ونموذج أرقى، ينبغي أن ينتهي إليه ريع البشرية كلها. وما ظاهرة الاستعمار بأشكاله المختلفة إلا برهان على هذه النزعة الاستكبارية التي داست فوق القيم وأهانت الإنسان ومسته في كرامته، مسخرة في ذلك قدراتها التكنولوجية وترساناتها العسكرية.

إن الغرب بطبيعة تصوره الإيديولوجي ورؤيته للكون والحياة والإنسان، ومن ثم أنماط سلوكه وإنجازاته، يكاد يجسد منظومة للشر متكاملة، لم تفتأ تخرج إفرازاتها المضرة بالإنسان وبالحياة على هذه الأرض، ولم يسلم من إسار هذه المنظومة الرهيبة- وهذا أمر ليس بالغريب – حتى ما يتعلق بمنجزات الغرب في ميدان علوم الفضاء وغزو الكواكب بحشد من الأقمار الاصطناعية، فهذه كلها لا تخرج عن النزعة الاستكبارية التي تعرض عضلاتها أمام الشعوب، بل وتستعملها لممارسة البطش والإرهاب بشكل سافر، وإن كان هذا البطش والجبروت يتذرع بغطاء فج ظاهر البطلان من الشرعية والقانون، إذ تحت ذلك الغطاء سلبت حقوق وانتهكت أعراض وأضفيت صبغة الشرعية على القتلة والمجرمين. إن كل القرائن والشواهد في تاريخ الغرب القديم والحديث، تقدم البراهين الساطعة على أن ذلك الغرب يشكل « منظومة » عمياء للرذيلة والشر والفساد والفراغ. وإنه لمن نكد الأيام وسوء طالع البشرية أن تتسم كثير من الشعوب المستضعفة بوداعة الخراف أمام بطش الغرب وغطرسته. نقول هذا ونحن على يقين بأن هذه البشرية المهيضة الجناح لا تعدم خميرة للخير والتمرد على طوق الظلم المضروب من الغرب على الإنسان، وإن كل ما يعتمل في معترك العالم من صراعات وينجم من تفاعلات حادة، إن هو إلا بيئة صالحة تربو فيها هذه الخميرة الطيبة لتسفر عند اشتداد سواعد الخير وصعود طلائع الحق التي تكسر شوكة الغرب وتؤدبه، وتعيد للحياة رواءها وللإنسان كرامته وللبشرية جدارتها وإحساسها بجدوى الحياة. ولن يملك هذه الخميرة إلا الإسلام، ولن يشكل طلائع الحق إلا حملة الإسلام

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *