Home»International»بيت العنكبوت

بيت العنكبوت

0
Shares
PinterestGoogle+

بيت العنكبوت

بقلم: عبد المجيد بنمسعود

إن من يتأمل النكسات التي عصفت بمجتمعات ما كان يسمى بالمنظومة الاشتراكية فأصابتها بالانفراط والانهيار، ينكشف له أن ما وقع لم يكن غريبا على العقلاء الذين يدركون سنن الله السارية في الكون والتي لا تتخلف أبدا، ذلك أن أرباب الفكر ممن يستضيئون بمنهج سليم في النظر وتحليل النظم والحضارات والأفكار، نشأ لديهم اليقين، والنظم الاشتراكية لا تزال بعد في المهد، بأن مآلها إلى دمار واندثار.
ولم يكن البريق الزائف والضجيج الهائل الذي أحاط قيام تلك النظم، بالذي يخلب أبصار أصحاب الرؤية النافذة الناقدة والنظر الحصيف، أو يحجب عنهم حقائق الأمور، لأنهم يعلمون أن سنن الله منطبقة لا محالة، وأن مظاهر الحركة التي قد تبدو على سطح تلك النظم، هي أشبه ما تكون بالحركة التي تصاحب ظهور أشخاص أفلام الكارتون أو الرسوم المتحركة.

أما الذين يسيطر عليهم الجهل بسنن الكون والحياة وتحركهم الأهواء الجامحة ويخضعون لأساليب السحر والتضليل، فإنهم عانقوا تلك الأنظمة المهزوزة واستقبلوها بالأحضان، ودافعوا عنها بكل استماتة وتفان، واستخدموا في سبيل ذلك كل ألوان البطش والإرهاب، سواء منها المادية أو المعنوية.
والحق الذي لا مراء فيه أن عوامل شتى فعلت فعلها في التمكين للأفكار الاشتراكية في نفوس شرائح وفئات عريضة داخل مجتمع العرب والمسلمين.
ولعل على رأس تلك العوامل فقدان المناعة الفكرية، والقابلية للاستعمار وتعشيش الأفكار الغريبة عن الشخصية الحضارية الأصيلة للأمة.
وليس في ذلك أي غرابة مادام الكيان الفكري لهؤلاء يخلو من اللقاح الذي يطرد الجراثيم الحاملة للمرض، ومن الميزان السليم الذي يقبل أو يرفض وفق مقاييس دقيقة وضوابط محكمة.
ويتمثل عامل آخر في الأوضاع الاجتماعية المزرية بكرامة الإنسان، والمتمثلة في الفقر المدقع والفوارق الطبقية الصارخة التي ترفع فئة محدودة إلى قمة الهرم الاجتماعي والاقتصادي، تنعم فيه بأنواع المتع وألوان البذخ والترف إلى درجة الميوعة والاستهتار، وتحط فئات واسعة إلى حضيض الهرم حيث ينخرها الجوع والمرض ويلفها البؤس بردائه الأسود الخانق المهين، فما كان لأناس يتنفسون في مثل هذا المناخ الموبوء ويتحركون وسط تياراته الملغومة، وينطلقون – فوق ذلك- من فراغ فكري قاتل..

ما كان لهؤلاء أن يقاوموا بريق أفكار جاءت تلوح بالبلسم الشافي لأمراض الإنسانية المستعصية، وتبشر بإقامة الجنة على الأرض، والتي تمحي معها الفوارق وتعاد فيها للإنسان كرامته السلبية واعتباره المغصوب، فيطرح عن كاهله المثقل عناء القرون، ويأوي منها إلى واحة يجد فيها راحته المنهوبة وسعادته التي سرقها الظلمة والغاصبون.
لقد كان لهؤلاء المعجبين والمبهورين عذرهم عندما عرضت عليهم المبادئ والأفكار الاشتراكية لأول مرة في طبق من لهب فظنوه من ذهب، فلقد كانوا مأخوذين ببريق الجدة الذي لا يرحم من يفتقرون إلى الحصانة الفكرية وإلى الاتزان العقلي الذي يقف أمام الظواهر ناقدا ومحللا، عارضا الأمور على وجوهها المختلفة مرجعا إياها إلى مكوناتها وأصولها.
غير أن تلك الأعذار التي استمدت مصداقيتها في ظل العوامل والشروط المذكورة آنفا، ما كانت لتحافظ على تلك المصداقية وقد انكشف الغطاء عن حقائق الأمور فتجلت سافرة للعيان.

ذلك أن المذهب الذي كان يعرض نفسه في إطار جميل وصورة ذات ألوان أخاذة زاهية، بفضل الأنساق التنظيرية التي تبدو للأنظار الكليلة كعمارات شاهقة تطاول أحلام الإنسان الأرضي، ولكنها إذا ما لامست الواقع سرعان ما تنهار على رؤوس أصحابها.
إن ذلك المذهب وقد وضع في محك التطبيق وميزان العمل، وأفرز ما أفرزه من نتاج وبيل، خلف ما خلفه من نسل مشوه مخيف، كان خليقا بأصحابه الذين أنجبوه أن يفروا منه فرار السليم من الأجرب، وكان خليقا بالأتباع المتعاطفين أن يتواروا من أمام ذلك النسل المرعب الكريه ويتنكروا له ويتبرءوا منه إلى أبد الآبدين. غير أن الذي وقع، هو أمر يحير أولي الألباب.
ذلك أن من عاشوا مرارة التجربة ما فتئوا أن انفجرت من أعماقهم دوافع الفطرة فاندفعوا إلى تكسير أغلال العبودية المقيتة وتحطيم أصنامها البشعة بكل عنف وقوة، في مشهد رهيب تفاعلت فيه مشاعر وآهات وزفرات صادرة من عهود القهر والظلام التي ألهبت بسياطها ظهر الإنسان فصيرته إلى حطام.
وعلى العكس من ذلك فقد أبى الأتباع المتعاطفون إلا أن يحافظوا على العهد المشين وأن يبقوا على الأوثان قائمة في أذهانهم متحكمة في نفوسهم، وراحوا يحاولون جاهدين، إقناع الناس بطرق تثير السخرية والإشفاق، بأن الاشتراكية لم تمت ولن تموت، وأنها كانت ضحية سوء التطبيق، أو أنها غيرت جلدها وجددت خلاياها، وستخرج على الناس في حلة قشيبة ورداء جميل!…

والواقع أن هؤلاء قد مثلوا صورة غريبة مقيتة للتشبث بالباطل والتعلق بالأوهام، فما بني على الباطل لا يمكن أن يصبح حقا في يوم من الأيام. ولكنها الأنانيات تعمي الأبصار وتطمس البصائر، فقد عز على هؤلاء الأشقياء أن ينكشف أمام أعين المغفلين ما كانوا يسخرونه من أدوات السحر والاحتيال، فباتوا من ذهاب فعالية تلك الأدوات على ألم مرير وهم شديد.
مع ذلك فقد عظم عليهم أن يعودوا إلى الحق والصواب، وأخذوا يتحصنون في حصون صاغوها من أوهامهم المريضة وظنوها حاميتهم من عواصف الحق المبين، ولكنها كبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون.
لقد كان المنطق السليم- ولا يزال- يقتضي من هؤلاء أن يغلقوا مكاتبهم ومؤسساتهم التي مارسوا منها خداع الجماهير البائسة، وأن يحرقوا كل الشعارات واللافتات التي علقوها كما تعلق التمائم، أن يعتذروا إلى الناس عن ذلك المسلسل الطويل والمرير من الكذب والتدجيل، وأن يتوبوا إلى الله توبة نصوحا وينحازوا إلى عقيدة الأمة الصادرة من رب العالمين، لقد آن لهؤلاء الغرباء أن يخرجوا من عالم الغربة الرهيب ويعودوا إلى موكب الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

3 Comments

  1. observateur
    29/04/2009 at 13:23

    للأسف انهارت الدولة الإسلامبة منذ قرون وما زلنا نمني نفسنا بالنهوض

  2. محمد السباعي
    29/04/2009 at 13:23

    تحية تقدير واحترام لأستاذنا الكبير عبد المجيد بنمسعود ، لا تبخل علينا بمقالاتك التحليلية العميقة في موضوع القيم ، الشباب في أمس الحاجة إلى ما تقدمون لهم من مواد علمية تساعدهم على تلمس الإجابات على مجموعة من القضايا التي تعترض حياتهم في زمان انقلبت فيه كل الموازين.

  3. عبدالمجيد بنمسعود
    30/04/2009 at 12:43

    حياك الله أخي الكريم، الأستاذ المقتدر،السيد محمد السباعي على تنويهك بجهدي المتواضع،وأسأل الله أن يعينناوإياكم على حمل أمانة الكلمة المضيئة الصادقة التي تدرأ الباطل وتذهب الخبث،وتزرع فسائل الخير على طريق الأمل في استعادة مجد الأمة الضائع، ولو كره الشانئون والمشككون والمخذلون.

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *