النفس الإنسانية في بؤرة الجدل حول الماهية »
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ الفكر والعقيدة
وجدة ، المغرب
أولا:الجدل المنهجي حول طبيعة النفس ماهي؟
من خلال الاطلاع على مختلف التعريفات المصاغة بخصوص النفس سواء عند المتكلمين ، ومعهم الفلاسفة أو الفقهاء والصوفية ، فقد تبين لنا أن المتخصصين في مجال الفكر الإسلامي قد يتفقون إجماعا على أن الإنسان جسد وروح ، وأن هذين العنصرين المكونين لبنية الإنسان متمايزان على وجه ما. غير أن سر هذا التمايز سيعرف تفسيرات مختلفة على مستوى تحديد طبيعة الروح ، وطرق الاستدلال عليها من خلاله. وهو ما رأيناه عند القول بالإمكان المعرفي في هذا المجال وعدمه أو صعوبة معرفة النفس من حيث هي جوهر متميز عن البدن ، وملازم له في أن واحد.
فالروح أو النفس جوهر قائم بذاته ، متميز عن البدن تميزا ذاتيا، وليس أنه مجرد عرض كما ذهب إليه بعض الشواذ. وهذه القاعدة شبه المجمع عليها لدى المفكرين المسلمين ، وخاصة المتكلمين والصوفية وغيرهم ، والتي قد تخالف مبدأ أو غاية ما ذهب إليه بعض الفلاسفة اليونان من اعتبار النفس صورة للبدن أو عرضا له ،و ما إلى ذلك من التوهمات الفلسفية التي قد لا تضيف إلى الصورة المادية للبدن ، إلا مفهوما انعكاسيا يرشح منه وبه .
كما أن الاتفاق قد تم على اعتبار أن الإنسان هو النفس على الحقيقة ، وليس هو مجرد الهيكل الجسماني المحدود والقابل للتغير الجوهري، والتحلل والتركيب التشكيلي… مع وجود خلاف منهجي في الموضوع برفض من طرف المفكرين المسلمين ، والملتزمين النص الديني لإقصاء الواقع الجسماني وتحديد خصوصية الإنسان ، مخافة الانزلاق في انحراف عقدي، متمثل خصوصا في نفي حشر الأجساد، وهو ما يتعارض مع النصوص الدينية.
لكن ،وبالرغم من وجود هذه التوافقات النظرية حول موضوع النفس عند المفكرين المسلمين إلا أنهم سيختلفون حول طرق إثبات النتائج التي توصلوا إليها. مما يعني أن خلافاتهم ستكون بالدرجة الأولى منهجية ،وهذا ما سيجعل من ملاحظاتنا لها واستعراضنا لبعضها وسيلة موضوعية لتحديد مناهج الفكر الإسلامي وضوابطها في هذا المجال .
إن موضوع النفس في الفكر الإسلامي سيعرف نقاشا حادا بين المتعرضين له من المفكرين على شتى مذاهبهم . وهذا النقاش سيكون شبه جدل عقدي ولغوي، عليه سيصوغ العقل أحكامه وطرق تعامله .
وقبل الخوض في تحديد العناصر المنهجية التي اعتمدها المفكرون المسلمون للاستدلال على النفس ، وتعريفها على النحو الذي سبق عرضه لابد من طرح إشكال معرفي قد يدخل في إطار الجدل المنطقي ذي الصبغة المنهجية حول فاعلية أدواته ، ومداها التحديدي والتحقيقي للتصور التام والبرهان .
وهذا الجدل قد كان دائرا حول ماهية الأشياء وجواهرها، هل يمكن إدراكها لمجرد الحد المنطقي، أم لا يمكن ذلك؟ ثم بعد ذلك يشرع في الحديث عن النفس باعتبارها ، هل تمثل جوهرا أم عرضا؟ وهل هي من قبيل ما يمكن معرفة ماهيته بمجرد التعريف أم أن معرفتها تحتاج إلى بعد منهجي آخر ليس من قبيل المناهج العادية ؟ كما: هل النفس تدخل ضمن مسائل العالم المرئي والمحسوس ، أم أنها متميزة عنه تميزا جوهريا وعرضيا؟.
فكما يبدو لنا، أن هذا الفكر قد وظف كل الأدوات اللازمة للتحصيل في مجال المعرفة العامة وأعطى كل أداة مداها ومجالها في الاستدلال والصدق أو الخطأ في الأحكام والاستنتاج . وأنه اعتمد على بديهيات تلك الأدوات كأساسيات للتحصيل المعرفي الصحيح . كما اعتبر الخطأ ناتجا عن إسقاط حكم أداة على غير مجالها وطورها.
وبهذا التأسيس الاحتياطي في المعرفة ، سيصبح من الموضوعي تلمس شتى المناهج المؤدية إلى المعرفة الصحيحة من خلال توظيف هذه الأداة أو تلك. فالحس في المحسوس والعقل في المعقول ، والحدس والوجدان في الحدوس والاستشعار… بل قد ذهبوا إلى المفاضلة بين أدوات المعرفة لتحديد ترتيبها من حيث الصحة والصدق والكذب في الأحكام ، وخاصة بين العلوم الحسية والنظرية.
» فقدم أبو العباس القلانسي العلوم النظرية على الحسية، وقدم أبو الحسن الأشعري العلوم الحسية على العلوم النظرية لأنها أصول لها. واختلفوا في الفاضل بين حاستي السمع والبصر، فزعمت الفلاسفة أن السمع أفضل من البصر، لأنه يدرك بالسمع من الجهات الست ، وفي الضوء والظلمة . ولا يدرك بالبصر عندهم إلا من جهة المقابلة ، وبواسطة من ضياء وشعاع . وقال أكثر المتكلمين بتفضيل البصر على السمع ، لأن السمع لا يدرك به إلا الصوت والكلام ، والبصر يدرك به الأجسام والألوان ، والهيئات كلها… »[1].
والنفس من خلال تعريفها، قد تحتمل هذه الأدوات ومجالاتها كلها عند البحث فيها من حيث هي مظهر عقلي له صلة بالحس استدلالا ومجاورة ، أو احتمال تخلل وتجلل …ومن حيث هي مظهر روحي شعوري مفارق للبدن عنصرا وجوهرا . ولهذا فإن المجال النفسي سيستدعي البحث في هذه المظاهر جملة وتفصيلا وذلك على مستويات . كل مستوى يقتضي نوعين من المناهج، واستدلالها وأقيستها، بحسب واقعه ومتطلباته .
ثانيا: النفس الإنسانية جدل التعريفات والماهيات
بيد أن المشكل العام الذي يشمل التحصيل المعرفي عن طريق كل الأدوات الممكنة ، يبقى هو: هل التعريف المبدئي يمكن أن يؤدي إلى استنتاجات صحيحة تفيد الماهية و تحديد جوهر الأشياء في نفسها ؟.
ثم هل التحديد إن كان له القدرة على هذا الإيصال بالأسلوب النظري المستند على معطيات الحس وملاحظاته يمكن أن يسري مفعوله في كل الحقول المعرفية أم أنه يبقى رهين حقل دون حقل ، ومقتصرا على مجال دون أخر؟ .
وبما أن النفس الإنسانية -كما قلنا- تشمل مظاهر الوجود بكل عناصره الظاهرية والباطنية ، فسيتطلب التعامل معها أن توظف المناهج المعرفية بكل صورها وطرقها. كل له تخصصه وغايته وحدوده وأبعاده .
إن هذا المبحث يمثل أشكل المسائل العقلية وأعقدها على مستواها المنهجي. لأنه يهم بالدرجة الأولى موضوع الأقيسة ، والتي تتشكل في صورها أساسا من الحدود والتعريفات . وهذه الحدود لها ضوابط هي التي حدتها، وهذه الضوابط أيضا ستعتمد في تأسيسها على ضوابط أخرى إلى أن يصل التسلسل الضابطي إلى الاعتماد المبدئي على البديهيات النفسية التي عليها تتأسس كل التصورات والتصديقات الإنسانية بحسب مناسبتها أو عدم مناسبتها للموضوع المتعرضة له . وهذا ما حدا بنا إلى التمهيد للضوابط المنهجية لمعرفة النفس بالتأكيد على نفسية المعرفة ، ومدى اعتماد المفكرين المسلمين على هذا المبدأ، الذي هو فطري بالدرجة الأولى، وغير محتاج إلى وسائط للدلالة عليه.
وفي هذا المجال قد نجد اعتراضا منهجيا ومهما جدا من طرف ابن تيمية ، سيؤسس عليه نفسية المعرفة ، وخصوصية معرفة النفس بالدرجة الأولى. إذ أنه سيعترض على مبدأ الحدود في الدلالة على الأشياء وجواهرها،وذلك بالتركيز على مبدأ الدوران التسلسلي الذي يفضي إلى المحال العقلي من منطلق : أن » التصور الذي ليس ببديهي لا ينال إلا بالحد » وباعتبار أنه « باطل ، لأن الحد هو قول الحاد، فإن الحد هنا هو القول الدال على ماهية المحدود. فالمعرفة بالحد لا تكون إلا بالحد. فإن الحاد الذي ذكر الحد، إن كان عرف المحدود بغير حد بطل قولهم :لا يعرف إلا بالحد، وإن كان عرفه بحد آخر فالقول فيه كالقول الأول . فإن كان هذا الحد عرفه بعد الحد الأول ، لزم الدور. وإن كان تأخر لزم التسلسل « [2].
وبهذا الاعتراض وما تلاه ، يكون ابن تيمية وغيره من المفكرين المسلمين الذين ناقشوا المنطق في حدوده وأقيسته ، قد سعوا إلى صياغة مناهج المعرفة على نطاق أوسع وموضوعي ،خال من الإسقاطات الذاتية على المواضيع الخارجية ، لأن » الحدود إنما هي أقوال كلية كأقوالنا « حيوان ناطق » و « لفظ يدل على معنى » ونحو ذلك . فتصور معناها لا يمنع من وقوع الشركة فيها، وإن كانت الشركة ممتنعة لسبب آخر، فهي إذن لا تدل على حقيقة معينة بخصوصها، وإنما تدل على معنى كلي. والمعاني الكلية ليس وجودها هو حقائق الأشياء. فالحد لا يفيد تصور حقيقة أصلا »[3].
هذا الرأي قد يتطابق منهجيا ما عبر عنه الغزالي في كتابه « المنقذ من الضلال « ، كما سبقنا وعرضنا، وذلك عندما قال « وكم من الفرق بين أن يعلم حد الصحة وحد الشبع ، وأسبابهما وشروطهما، وبين أن يكون صحيحا وشبعان ، وبين أن يعرف حد السكر، وأنه عبارة عن حالة تحصل من استيلاء أبخرة تتصاعد من المعدة على معادن الفكر، وبين أن يكون سكران لا يعرف حد السكر، وعلمه وهو سكران ، وما معه من علمه شيء. والصاحي يعرف حد السكر وأركانه ، وما معه من السكر شيء. والطبيب في حالة المرض لا يعرف حد الصحة وأسبابها وأدويتها، وهو فاقد الصحة . فكذلك فرق بين أن تعرف حقيقة الزهد وشروطها وأسبابها، وبين أن يكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنيا… »[4].
ورأيه هنا أقرب إلى موضوع النفس من رأي ابن تيمية ، الذي قد يأخذ طابعا عموميا فيما يتعلق بموقفه من الحدود المنطقية ، وقدرتها على الإيصال وتقريب حقيقة الأشياء على ما هي عليها في ذاتها.
إذ أن معرفة الأشياء على ما هي عليها في ذاتها يقتضي التجوهر بها والاندماج فيها اندماجا كليا، بحيث سيصبح الشخص هو عين ذلك الشيء. وهذا يقتضي مناسبة ذاتية بين العارف وموضوع المعرفة . وهذه المناسبة لا يمكن أن تتوفر إلا للإنسان مع ذاته – أي نفسه -، ولهذا فقد كانت معرفة النفس هي أصدق المعارف وأقربها إلى الإدراك من كل العالم الخارجي، بل حتى الذاتي ذا الطابع المادي والعضوي. ومن هذه الضرورة التي تقتضيها المناسبة كان الحكم الصحيح أو الخطأ لدى الإنسان على الأشياء عند توظيف أدوات المعرفة في غير مجالها، كتوظيف الحس في الحكم على المجال العقلي أو العكس . وكذا توظيف العقل في الحكم على مجال الذوقي والشعوري … إذ أن الحكم من هذا المستوى سوف لن يكون اندماجيا أو مناسبا لموضوع المعرفة. وبالتالي فسيكون بمثابة حكم على موضوع خارجي رغم أن هذه المستويات الثلاث قد تدخل في دائرة نفسية المعرفة وأدوات الذات الواحدة .
إن هذا الوعي المعرفي قد أصبح عند أغلب المفكرين المسلمين من المسلَّمات ، سواء كانوا متكلمين أو فقهاء وصوفية، بل حتى الفلاسفة منهم ، وعلى رأسهم ابن سينا، الذي يعتبر من أهم المتخصصين العقليين في المجال النفسي، حتى إن الكثير من المتكلمين وغيرهم قد قلدوه في طرق استدلالهم على النفس وما يترتب عن تحديد جوهرها من مقتضيات وجودية ووظيفية ، وربما حتى عقدية .
إن تمهيدنا هذا حول الضوابط المنهجية لإثبات الجوهر النفسي ومقتضياته ، نريد من خلاله أن نصل إلى القول بأن المسلمين لم يستعملوا أساليب الإسقاط في تعاملهم مع النفس . بمعنى اعتماد المنطق الصوري النظري المجرد كوسيلة وحيدة للاستدلال ، وتوظيف قياس الشمول على ما هو عليه بقواعده كما وظفه اليونان ، بل إنهم سيوظفون الأسلوب التأملي الاستبطاني ، سواء على مستوى إثبات الجوهر أو على مستوى إثبات الظواهر النفسية ، وضبطها وصياغتها سلوكا مقننا.
وهذا التأمل على أساسه ستوظف الأقيسة العقلية بحسب معطياتها الموضوعية والميدانية المنبعثة من ميدان النفس ابتداء.
فأهم الطرق لمعرفة النفس هو التأمل الذاتي، ومن خلاله يثبت الجوهر النفسي من حيث هو جوهر مفارق للبدن له خصوصياته وقواه وكمالاته . ولإثبات الجوهر النفسي وخصوصياته لابد من استعمال القياس البدني، وتعقب أعضاء الجسد ووظائفه ، وظيفة تلو الأخرى حتى تتوصل إلى الخصوصية النفسية ، والتي في مجملها تبقى شعورية .
[1] ابن طاهر البغدادي:أصول الدين ص 10
[2] ابن تيمية:مجموع فتاوى ،المنطق 9 ص44
[3]نفس ص48
[4] الغزالي :المنقذ من الضلال ص–4843
Aucun commentaire