الظواهر النفسية وإشكالية التداخل بين النفس والروح
الدكتور محمد بنيعيش
أستاذ العقيدة والفكر
وجدة ، المغرب
أولا : النفس والوصف المذموم في الاصطلاح الصوفي
إلى جانب تعاريف النفس في الفكر الإسلامي عموما و الصوفية خصوصا ،حيث الميل إلى اعتبارها كمصطلح له معنى مشترك بين النفس الأخلاقية السلوكية والنفس الجوهرية ، أو بين الوظيفة والبنية ، نجد أن الغالب كما صرحوا بذلك كلهم يبقى هو: أن النفس قد يقصد بها ،في التداول الصوفي، المفرز والحاث للجانب المذموم من السلوك الإنساني. وبهذا فستبقى متميزة عن الروح تميزا وظيفيا و بنيويا،إذ الروح من الناحية المعيارية قد تمثل الجانب المحمود من سلوك الإنسان في وضعه الوجودي وأصله الخلقي والذي يعبر عنه أيضا بالقلب حسب بعض المواضعات الاصطلاحية « وهو الروح الإنساني المتحمل لأمانة الله ، المتحلي بالمعرفة ، المركوز فيه العلم بالفطرة ، الناطق بالتوحيد بقوله بلى: فهو أصل الآدمي ونهاية الكائنات في عالم المعاد.قال الله تعالى: « قل الروح من أمر ربي »… »وقال: »ألا بذكر الله تطمئن القلوب ».وهو محل العلوم والوحي والإلهام ،وهو من جنس الملائكة مفارق للعالم الجسماني قائم بذاته « .ويزيد السهروردي توضيحا لمعنى النفس في الاصطلاح الصوفي بقوله: »وقيل النفس لطيفة في القالب منها الأخلاق والصفات المذمومة،
كما أن
الروح لطيفة مودعة في القلب منها الأخلاق والصفات المحمودة . كما أن العين محل الرؤية ، والأذن محل السمع ، والأنف محل الشم ، والفم محل الذوق . وهكذا النفس محل الأوصاف المذمومة ، والروح محل الأوصاف المحمودة . وجميع أخلاق النفس وصفاتها من أصلين : أحدهما الطيش ، والثاني الشره، وطيشها من جهلها وشرهها من حرصها. وشبهت النفس في طيشها بكرة مستديرة على مكان أملس مصوب لا تزال متحركة بجبلتها ووضعها، وشبهت في حرصها بالفراش الذي يلقي نفسه على ضوء المصباح ، ولا يقنع بالضوء اليسير دون الهجوم على جرم الضوء الذي فيه هلاكه .
فمن الطيش توجد العجلة وقلة الصبر،والصبر جوهر العقل ، والطيش صفة النفس وهواها. ومن الشره يظهر الطمع والحرص ، وهما اللذان ظهرا في آدم حيث طمع في الخلود فحرص على أكل الشجرة ».
فالنفس اسم جنس وجوهر ،بعضها كما يقول الحكيم الترمذي: « أطيب من بعض وبعضها أخبث من بعض ، وبعضها أشد ظلما وأكثر فجورا. وهي النفس الأمارة . والنفس طابت بنور ظاهر الإسلام من خبث ظاهر النفس ، وهي تزداد طيبا بصدق المجاهدة إذا قاربها توفيق الله تعالى ». ثم يبين نتائج كبح النفس في وصفها الذميم ، والغاية من هذا اللجام ، فيقول : « والعبد في مزيد من ذلك ينور الله الإيمان في قلبه ، فبقدر ما يستنير في صدره يذوب هذا الغطاء من قلبه ، وينكشف له من حقائق الأمور حتى يصير من أهل اليقين ، فصارت الرغبة إليه والرهبة والغضب له.
وهذا المعنى هو الذي عبر عنه الغزالي وابن عربي وآخرون في تعريف النفس والبعد التوحيدي الذي يصبو إليه.
بحيث نجد الغزالي يستعمل بقوة كلمة « النفس » في المعنى الذي يخص جوهر الإنسان من حيث هي ذاته لا من وجهة وظيفتها وبعدها السلوكي والأخلاقي. فيؤكد في عدة كتب بأنها هي » الجوهر القائم بنفسه الذي ليس هو في موضع ولا يحل شيئا ». ويكرر هذا المعنى تأكيدا بقوله : « وقد تكرر منا أن الإنسان على مضاهاة العالم.فالنفس جوهر روحاني لطيف ،ولا يجب أن ينكر المنكر ذلك وهو يشاهد شعاع الشمس وروحانيته وبساطته ،حتى أن قرصها يكون بالمغرب وشعاعها يكون بالمشرق.فما هو أن تغيب خلف جبل فينقطع الشعاع الذي بالمشرق بلا زمان . ولو كان جسما لما انقطع ذلك في آحاد السنين ، وكذلك إذا أخذت المرآة وعكست بها الشعاع انعكس ذلك إلى حيث شئت ، ثم تقطعه عن موضع عكسته إليه لا في زمان ، وجوهر الشعاع بالإضافة إلى جوهر النفس كثيف. فليس في العالم موضع بيت ولا زاوية إلا وهو محمول بما لا يعلمه إلا الله تعالى. ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالستر في الخلوة ، وهو أن يجامع الرجل امرأته عريانين . وقد قال الله تعالى: « ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ». وقال الله تعالى في الإنسان : » ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ».
فالأرواح مشحون بها العالم ، وإنما نبهنا على ذلك تنبيها: أن للنفس شبه عنصر تكون منه يناسب لطافتها، فإذا تأتت الروح الحيوانية أوجد الله تعالى نفسا جوهرا لطيفا روحانيا عالما بالقوة في طبائعه… ».
وهذا الجمع بين النفس والروح في معنى واحد سنجده أيضا عند رده على أفلاطون الذي يرى أن النفس واحدة وهي النفس الكلية ، فيرد عليه وذلك بأسلوب المرادفة بين النفس والروح قائلا: « وقد اختلف الناس فيها- أي النفس – على مر السنين والأيام . فزعم أفلاطون أن النفس والروح واحدة وهي النفس الكلية وأنها مع الأبدان ، كالشمس مع الأرض تنثر شعاعها على المواضع، فيأخذ كل موضع نصيبه على قدره . وزعم أنها تألف الجسم بضرب من المناسبة بالطبع فإذا حصلت فيه ألفته وشغفت به لا تزال فيه ، وليس هي عنده حالة في الأجسام ، وإنما هي كالمغناطيس. وزعم آخرون أن النفس عرض وأن حقيقة الحياة معنى يكون عند اعتدال المزاج . فإذا مات الإنسان فنيت روحه.
وهؤلاء ذهبوا إلى أن النفس محدثة ،وزعم أفلاطون أنها قديمة ، وذهبت فرقة ثالثة إلى أنها محدثة عند حدوث البدن وهي مع ذلك لا تفنى، ومن حقق من الفلاسفة على هذا المذهب ، والأكثر على مذهب أفلاطون « .
فالملاحظ على هذا النقاش الذي انتقد به الغزالي أفلاطون أنه يستعمل كلمة نفس عند تحديد المعنى الجوهري لا الوظيفي للإنسان ، وهو بهذا يضع المصطلح النفسي بحيث يشمل المعنى الصوفي والفلسفي للنفس.
فحينما يريد المعنى الصوفي يوظفه بحسب تموضعه في الخطاب وأبعاده، وحينما يريد المعنى الفلسفي يوظفه بحسب مناسبته للموضوع . وإلا فإنه في بعض الأحيان قد يستعمل كلمة روح بدل نفس، ولكن حينما يتعلق الأمر بالحديث عن الجوهر لا الظواهر أو المظهر.
ثانيا:إشكالية التداخل الاصطلاحي بين النفس والروح
وكما قلنا بأن التداخل في الاصطلاح واقع جدا بين كلمة نفس وروح ،وهو أمر موضوعي ومعقول قد يفرض نفسه عند تعريف الإنسان ككل، لأن بنيته متكاملة ولا يستطيع أحد أن يخلص عناصرها من بعضها تخليصا كليا ودون الإخلال بتعريفها أو خصوصية عناصرها إلا الله سبحانه وتعالى الذي خلقها « ألا يعلم من خلق وهو الطيف الخبير ».
وفي هذا نجد تقسيمات اصطلاحية لابن عربي حول التكوين الإنساني مؤكدا للمعنى العقدي الذي أشرنا إليه. فيقول : « اعلم أن النشأة الإنسانية بكمالها روحا وجسما ونفسا، خلقها الله على صورته . فلا يتولى حل نظامها إلا من خلقها- إما بيده – وليس إلا ذلك أو بأمره. ومن تولاها بغير أمر الله فقد ظلم نفسه وتعدى حد الله فيها، وسعى في خراب من أمر الله بعمارته … ».
ولئن كان ابن عربي في هذا النص يطرح المصطلح النفسي على شكل تمايز بينه وبين الروح والجسم إلا أنه يعترف بأن تخليص معنى النفس من الروح أو من الجسم على مستوى هذه الثلاثية البنيوية ليس بالأمر الهيِّن ، وليس في مستطاع العلم الإنساني العادي أن يحدها تحديدا خالصا ودقيقا إلا من ألهمه الله بعلمه معرفة لغز التمايز بين عناصر البنية الإنسانية .
لكن يبقى الغالب على الصوفية الأوائل والمؤسسين للمصطلح الصوفي التمييز بين النفس والروح . ليس على مستوى البنية ، وإنما على مستوى الظواهر والأوصاف والأحوال والسلوكيات . إذ النفس عندهم موضوع قابل للتعريف والملاحظة والضبط والمجاهدة ، أما الروح فهو فوق أن يعرف بمجرد التصور، أو أن يحد بلغة عادية.
وعن هذه المواقف نجد الكلابادي في « التعرف لمذهب أهل التصوف » يقول : « قولهم في الروح : قال الجنيد: « الروح شيء استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه. ولا يجوز العبارة عنه بأكثر من موجود لقوله : « قل الروح من أمر ربي ». وقال أبو عبد الله النباجي: الروح جسم يلطف عن الحس ويكبر عن اللمس ولا يعبر عنه بأكثر من موجود.
قال ابن عطاء: خلق الله الأرواح قبل الأجساد لقوله تعالى: « ولقد خلقناكم » يعنى الأرواح « ثم صورناكم » يعني الأجساد. وقال غيره : الروح لطيف قام في كثيف كالبصر جوهر لطيف قام في كثيف .
وأجمع الجمهور على أن الروح معنى يحيى به الجسد. وقال بعضهم : الروح نسيم طيب يكون به الحياة ، والنفس ريح حارة تكون بها الحركات والسكنات والشهوات . وسئل القحطبي عن الروح ، فقال : « لم يدخل تحت ذل كن ،ومعناه عنده أنه ليس إلا الإحياء. والحي والإحياء صفة المحيي، كالتخليق والخلق صفة الخالق . واستدل من قال ذلك بظاهر قوله : « قل الروح من أمر ربي ». قالوا أمره كلامه ، وكلامه ليس بمخلوق ، كأنهم قالوا إنما صار الحي حيا بقوله كن حيا. وليس الروح معنى في الجسد حالا مخلوقا كالجسد. قال الشيخ : وليس هذا بصحيح ، وإنما الصحيح أن الروح معنى مخلوق كالجسد ».
وهذه المواقف والتعاريف كلها تؤكد التمايز بين مصطلح الروح والنفس ،إذ الأول أصل الثاني، كما أن مصطلح النفس له بعد عملي وظيفي من الناحية السلبية هو نتيجة التوجه الخطأ للإرادة الشخصية والتصور الناقص للإدراك الإنساني.
ولهذا فالنفس من جهة قد تدخل في حكم الروح ومن جهة هي غير الروح ، لكن لها بالروح صلة الإضافة والانعكاس إذا اعتبرت وظيفة غرائزية ومظهرا سلوكيا من مظاهر الروح المحرك الأول للإنسان .
وقد لخص هذا التداخل صاحب المعجم مصطلحات الصوفية عند التعرض لمصطلح « نفس » فيما يلي » النفس خمسة أضرب ، حيوانية وأمارة وملهمة ولوامة ومطمئنة ، وكلها أسماء الروح إذ ليست حقيقة النفس إلا الروح ، وليست حقيقة الروح إلا الحق . فالنفس الحيوانية تسمى الروح باعتبار تدبيرها للبدن ، والنفس الأمارة باعتبار ما يأتيها من المقتضيات بالأوامر والنواهي. والنفس الملهمة باعتبار ما يلهمها الله من الخير، فكل ما تفعله من الخير هو بالإلهام الإلهي، وكل ما تفعله من الشر هو بالاقتضاء الطبيعي. والنفس اللوامة باعتبار أخذها في الرجوع والإقلاع ، فكأنها تلوم نفسها. والنفس المطمئنة باعتبار سكونها إلى الحق واطمئنانها به. وقيل النفس ناطقة وصالحة وحكيمة ونبوية. فالناطقة من حيث يعلم الأمور المرتبة على أسبابها، والصالحة من حيث يشتاق إلى الكمال ، ويقلق من النقص ، ويحرص على الخير، ويهتم بالنجاة . والحكيمة من حيث نظره في أجناس العلوم ومعرفته بالمذاهب ، ويسبح في بحر التوحيد مهتديا بنجوم الاستدلال ، ويحقق مفهوم الصفات وسر الوحدانية ، ويحقق معنى الاصطلاح من حيث يتكلم في الهوية والوحدة الإلهية المطلقة،والجواهر الروحانية والنبوية من حيث يأتي بالمثل على السعادة ويقيم البراهين السهلة والمفهومة ويخاطب بالخطابة الملائمة ، ويتحدى بالمعجزة وحظوظ النفس ما زاد في الحقوق ، وحقوقها ما يتوقف عليه حياتها وبقاؤها.
وفلان بلا نفس : معناه أنه لا تظهر عليه أخلاق النفس لأن من أخلاق النفس الغضب والحدة والتكبر والشره والطمع.فإذا كان عبد قد سلم من هذه الآفات وما شاكل ذلك، يقال له بلا نفس ، يعني كأنه ليس له نفس ».
وهذا التعريف الاصطلاحي والإجمالي للنفس كما صاغه الصوفية ، يتبين لنا من خلاله أنهم لم يستعملوا مصطلح نفس إلا وهي على صورة إضافة أو صفة – أي معلولة – ولهذا تعددت أسماؤها بحسب الصفات التي تظهر بها. ولكن الروح قد تستغني عن الإضافات المتعددة ، لأن لها إضافة واحدة عقدية ، وهي « قل الروح من أمر ربي ».
Aucun commentaire