التطبيع في التعليم
عندما تعمى البصيرة يصبح الضمير سلعة رائجة للبيع في سوق التطبيع الذي انفتحت أبوابه في السنوات الأخيرة في الجامعات والمؤسسات العلمية حيث يرى بعض من رجال العلم والباحثين وأساتذة التعليم العالي أن تأخرهم العلمي سببه تأخر التطبيع لديهم وعدم الانفتاح على علماء وحكماء صهيون والجامعات العبرية حتى صار اللقاء مع أي وفد صهيوني فرصة تاريخية ومناسبة للتبجح والتفاخر وربما فرصة للحصول على صك غفران ووسيلة للارتقاء العلمي ونيل المناصب وملء الجيوب. وليس في الأمر غرابة والحال أنه ليس للنخب الجامعية من هذا الصنف ما تفعله غير بيع الضمائر وتسهيل أمر التطبيع واختراق جبهة المقاطعة التي تشكلت ضد سماسرة الموت من بني صهيون ومجنديهم من دعاة التحرر وحقوق الإنسان المزعومة. ففي الوقت الذي تتسارع فيه المؤسسات المشبوهة للإجهاز على الهويات والخصوصيات تحت راية العولمة وحقوق الإنسان والحاجة إلى الإصلاح وتكاتف الجهود لمحاربة الإرهاب نجد البعض من النخبة العربية الفرنكفونية والانجلوفونية تسرع الخطى نحن التطبيع من خلال عقد الندوات العلمية والثقافية للاستضافة علماء الكيان الصهيوني وتوثيق العلاقة العلمية معهم. وإذا كنا نلوم بعض السياسيين ونتهمهم بالخيانة لتطوعهم في خدمة السياسة الصهيونية وفك العزلة عن الكيان الاستعماري العنصري ونحن نعلم أن فن السياسة يتسع للعهر والسمسرة فهل نلوم النخبة العلمية والفكرية بنفس الكيفية ؟. وهل أصبح العلم هو الآخر فن الممكن حتى نتهم علماءنا وباحثينا بالعهر العلمي الذي صار مطية لتمكين أعداء الأمة من بلوغ عقول أبنائها لتلميع صورة الكيان الصهيوني والتغطية على جرائمه الوحشية من خلال معسول الثقافة وأفيون الفكر المبدع وعلوم المكر والنكوث التي تسعى النخبة العلمية الصهيونية لنشرها من خلال الندوات والملتقيات الثقافية والعلمية التي تعقد هنا وهناك.
والحقيقة أن الكيان الصهيوني مثلما هو مدجج بترسانة من أسلحة الدمار الشامل فهو كذلك قد جند ودجج نخبه بأسلحة الاختراق العلمي والثقافي لتخريب وإفساد النخب العربية. وإذا كان الموساد الإسرائيلي قد نشط في تصفية العلماء العرب منذ الستينات وهو يلاحق حاليا ويغتال علماء العراق الأبي المقاوم ويجتث ما لديه من كفاءات وخبرات فهو يعمل من ناحية ثانية وبأسلوب مختلف على شراء ذمم وضمائر النخب العربية لتمرير مشروع التطبيع وتجريد الأمة من حصانتها الثقافية والفكرية عبر منابر العلوم والبحوث المحايدة ظاهريا والمسمومة داخليا. ويبدو الأمر أشد خطورة حين تنفتح أقسام التاريخ والجغرافيا وجمعيات المؤرخين والجغرافيين في الجامعات ومؤسسات التعليم العالي أمام علماء الكيان الصهيوني والمؤسف المخزي أن ينخرط بعض المؤرخين والجغرافيين في موجة الانفتاح والتطبيع ويغتر بعضهم فيجند نفسه ويعمل على تجنيد غيره للحث على تطوير العلاقات مع من زيفوا تاريخ وجغرافية فلسطين وعملوا على تأسيس وشرعنة تاريخ وجغرافية دولة الاحتلال من خلال تكريس فكرة الأرض الموعودة وشعب الله المختار. وطمعا في منة أو منحة أو ترقية علمية أو منصب سياسي، ضعفت ضمائر البعض من المؤرخين والجغرافيين وعمت بصائرهم وأبصارهم عما ترتكبه الدولة العبرية من جرائم تطول البشر والشجر والحجر وصمّت آذانهم وتحجر وجدانهم عن سماع صرخة شعب يذبح ليلا نهارا سرا وعلنا. وعوضا أن يستجيبوا لدعوة المقهور والمستضعف باستنكار أفعال العدو المحتل المستكبر والمستهتر ويعلنوا مقاطعته وتشديد الحصار عليه ها نحن نسمع هؤلاء الفاقدين للضمير والبصيرة يهمسون حينا ويرفعون صوتهم حينا للترحيب بالوفود العلمية والثقافية من دولة الاحتلال في حين تشمئز نفوسهم وتكفهر وجوهم إذا تعلق الأمر بدعوة وتشريك علماء وباحثين عرب. وخير مثال على ما أقول زمرة المطبعين بالجامعات التونسية، فكم سمعنا عن التطبيل والتزمير لاستضافة المؤتمر الجغرافي الدولي المزمع عقده بتونس سنة 2008 وكم كانت الدعوة ملحة لحث جميع جغرافيي العالم للمشاركة فيه ومدى الحماس لكسب التأييد له قبل سنوات من عقده.
وقد ترافق هذا كله بحملة مسعورة ضد الجغرافيين التونسيين الذين اشترطوا استضافة المؤتمر بعدم قبول الجغرافيين الصهاينة انسجاما مع مبادئهم الوطنية والقومية ودفاعا عن الحقوق العربية وحق الشعب العربي الفلسطيني في أرضه وجغرافيته ورفضا للاحتلال وجرائم الكيان الصهيوني. وتمسكا بكل ذلك اتخذت جمعية الجغرافيين التونسيين قرارا صريحا وحاسما برفض حضور ومنع مشاركة الوفد الجغرافي الصهيوني. فما كان من الاتحاد الجغرافي الدولي إلا أن يبعث برسالة تهديد للهيئة المديرة للجمعية ملزما إياها بتقديم اعتذار عن الموقف من مقاطعة الوفد الصهيوني ونشر بلاغ في الغرض يدعو جميع الجغرافيين ويخص الصهاينة بترحيب خاص وكأن هذا الاتحاد قد تحوّل إلى مجلس أمن يهدد ويقرر، ينهى ويأمر بكل عنجهية صهيونية تمتلك حق الفيتو. ورغم إصرار الهيئة المديرة على موقفها ومعها أحرار تونس وشرفائها والمنظمات والجمعيات الوطنية، فإن زمرة من الجغرافيين قد كشفت عن مدى تصهينها وانخراطها في التطبيع والتجاوز على موقف الجغرافيين التونسيين والرأي العام الوطني فأبرمت اتفاقية وقدمت اعتذارا وقبضت مستحقات بيع ضميرها والدعم المستوجب لتستمر في حملتها المسعورة تمهيدا لاستضافة الوفد الصهيوني بذريعة الحياد العلمي واحترام قوانين الاتحاد الجغرافي الدولي التي تحمي أعضاءه الدائمين ولا تجيز منع حضور ومشاركة أي منهم في مؤتمراته وكأن سيادة الأوطان ومواقف الشعوب مستباحة للمنظمة الجغرافية العالمية والتي نعرف جيدا من هم وراء نشأتها والدور الذي تؤديه خدمة للقوى الاستعمارية ومن يموّلها وينصّب مكتبها التنفيذي ويوجه سياستها الجيوصهيونية الاستعمارية المرتبطة بمثلث الإرهاب الدولي تل أبيب/لندن/واشنطن. فجمعية الأرض الموعودة الصهيونية والجمعية الملكية البريطانية وديوان العلاقات الخارجية الأمريكي هي العقل المدبر لرسم سياسة الاتحاد الجغرافي الدولي مثلما هو الشأن الذي تدار به جل المؤسسات والمنظمات الدولية من الأمم المتحدة ومجلس الأمن وصولا إلى الاتحاد الجغرافي العالمي الذي يقع تحت هيمنة إنجلوأمريكية صهيونية مطلقة. ولسوء الحظ وجد مكتبه التنفيذي من هم في متناول الإغراء والاستسلام وهم زمرة ضيقة الأفق، ضعيفة الإيمان والانتماء، تستكين للذل جبنا وتتخلى عن كرامتها طمعا ولا يضيرها أن تبيع ما خلفها وما أمامها إرضاء لأسيادها مما حوّل الحياد العلمي الذي تدّعيه إلى انقياد أعمى وتطبيع مُذلّ. فليس من الصدفة أن نجد من مهام الزمرة الجغرافية التونسية المنخرطة في عملية التطبيع السعي المحموم لمحاصرة نشاط اتحاد الجغرافيين العرب والتشكيك فيه واتهامه بالتسييس وتكريس فتور علاقة الجغرافيين التونسيين بالجغرافيين العرب الملتزمين بقرارات المقاطعة في الوقت الذي تسعى دون هوادة لربط توجهها بتلك الأطراف الجغرافية الغارقة في التطبيع من مؤيدي اتفاقية الاستسلام المصرية أو مؤيدي مشروع الاعتراف السعودي وهم والحمد لله قلة تعصف بهم المذلة حيثما اتجهوا. ورغم المعرفة المسبقة بأن التطبيع عنوان خيانة وخروج عن شرف الانتماء وصدق الإيمان بالقضايا الوطنية والقومية والإنسانية العادلة، نجد هذه الزمرة الضالة تنخرط مسعورة في حملة دعاية لا مثيل لها دفاعا عن المؤتمر العظيم أو الانجاز « المعجزة » الذي ربما يفتح أمام الجغرافيين التونسيين والعرب عالما جديدا كانوا يجهلونه وسيتكفل الوفد الصهيوني بتقديمه واستعراض مجاهله أمام من عمت أبصارهم عن خرائط الأرض الموعودة وخرائط التدمير والتجريف وقضايا الهجرة والاستيطان ومأساة التيه اليهودي وكذلك خرائط إسرائيل الكبرى ومبررات توسيع مجالها الحيوي والأمني. فمن أجل تبليغ الوفد الصهيوني لرسالته ولشرح خطط دولته الاستعمارية العنصرية لا بد أن يشتري له أنصارا ومؤيدين ومجندين في صفوف الجغرافيين ليفتحوا له جسور الوصول إلى المنابر الجغرافية العربية بدءا بالجامعة التونسية. ولتمرير خطة التطبيع والاختراق هذه لا بد أن يكون دور المأجورين لتنفيذها على قدر من الأهمية أغرى زمرة التطبيع على التضحية والاندفاع. وكم مارست هذه الزمرة سياسة التفرد بالقرارات للمناورة على الجغرافيين واستبعادهم حتى تجد المجال مفتوحا أمامها للاندفاع أكثر في مسار التطبيع انطلاقا من مؤتمر سيول 2000 حيث تم اللقاء مع الوفد الصهيوني وعقدت صفقة التطبيع وما تقتضيه فإذا بتلك الزمرة تصبح حصان طروادة وتجد الدعم والتزكية من الوفد الصهيوني لتنال تونس شرف استضافة المؤتمر الجغرافي الدولي القادم وحين لم تنجح تلك الزمرة في المحافظة على مناصبها ضمن الهيئة المديرة للجمعية الجغرافية التونسية في انتخابات فيفري 2004 استغلت ذيولها من جديد وحضورها في مؤتمر الاتحاد بقلاسقو الأخير لتتمم صفقة التطبيع وتنقلب على موقف الجمعية وعلى هيئتها المديرة ومن ثم تعلن جلسة خارقة للعادة لتؤسس لجمعية جديدة تعمل على مواصلة مشوار التطبيع وتنفيذ مسلسل إملاءات التنازل وترتيب اللقاءات تمهيدا لحفل الاستسلام الكبير تحت مظلة الاتحاد وباسم علم الجغرافيا. والحقيقة التي غابت عن بصيرة وضمير زمرة التطبيع أن الجغرافيا علما لا حياد فيه ولا بيع ولا شراء في مدى التزامه بسيادة الأوطان وحرية وكرامة الشعوب وأن الجغرافيا التي أعنيها هنا هي الجغرافيا الإنسانية ذات الأهداف الوطنية والقيمية وليس تلك الجغرافيا الاستعمارية العنصرية بشهادة البعض من أصحابها والتي أقام الاتحاد الجغرافي الدولي عليها استر
1 Comment
bon article ….