كلمتان واحدة ترفع صاحبها وأخرى تضعه فينظر كل إنسان بما يفوه
كلمتان واحدة ترفع صاحبها وأخرى تضعه فينظر كل إنسان بما يفوه
محمد شركي
مما يعرّف به الإنسان ويميّز به عن غيره من المخلوقات التي تشاركه الحياة كائن أنه ناطق . وبقدر ما يعتبر النطق ميزة يشرف بها الإنسان ، فإنه ينطوي على خطر جسيم يتهدده إن هو لم يحسن استعماله مع الخالق سبحانه وتعالى ومع الخلق على حد سواء .
أما حسن أو سوء استعمال النطق مع الخالق سبحانه وتعالى ،فيكشف سره حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي جاء فيه : » إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات ،وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم » .
فنطق الإنسان أو ما يفوه به من لفظ يكون إما له أو عليه ، فإن أحسن النطق نال به رفعة عن ربه ، وإن هو أساءه حاز به ضعة عنده . أما الرفعة، فهي درجات ، والدرجات كناية عن علو الشأن والمنزلة والمآل ، وأما الضعة، فهي درك أسفل في الذلة والهوان وانحطاط الشأن .
قد يحصّل الإنسان فوزا عظيما بكلمة لا يلقى لها حين ينطق بها بالا ، وقد يجني خسارة فادحة تحصل بأخرى لا يلقى لها أيضا بالا ، وهذا يدل على خطورة النطق الذي هو ميزة طالما فاخر بها الإنسان غير الناطقين من المخلوقات ، إنها ميزة رافعة خافضة في نفس الوقت .
ومن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا قوله لمعاذ بن جبل رضي الله عنه وهو يسأله عن أمرعظيم حتى إذا قال له عليه السلام : » ألا أخبرك بمالك ذلك كله ؟ » أجابه : » بلى يا رسول الله ، قال له : « كفّ عليك هذا « مشيرا إلى جارحة اللسان ، فتعجب معاذ من ذلك قائلا : » يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فأجابه عليه السلام : » ثكلتك أمك يا معاذ ، وهل يكبّ الناس في النار على وجوههم ـ وفي رواية ـ على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ؟ «
أما الأمر العظيم الذي سأل معاذ عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فهو العمل الذي يدخله الجنة ، ويباعده عن النار ، وهو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير على من يسّره الله عليه ، فهو عبادة الله بلا شرك ، وإقامة أركان الإسلام الخمسة ، وأبواب الخير من صوم تطوع ،وصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار ، وقيام الليل ، وجهاد في سبيل الله . وبعدما فصّل عليه الصلاة والسلام في سرد ما به يحصل الأمر العظيم الذي سأله عنه معاذ، جعل ملاكه أي قوامه وعنصره الأساسي النطق أو التفوه بالكلام ، وهو ما جعل معاذ يتعجب من هذا النطق الذي هو ملاك الإسلام، وهو رأس الأمر كله ، وملاك الصلاة التي هي عموده ، وملاك الجهاد الذي هو ذروة سنامه ،فأخبره عليه الصلاة والسلام بأخطر ما يترتب عن سوء استعمال النطق حيث يكب الناس على وجوههم أو على مناخرهم في النار . هذا حال النطق بين الناس وخالقهم.
أما حاله فيما بينهم، فإنه يرفعهم عند بعضهم البعض أيضا أو يضعهم . فرب كلمة يفوه بها إنسان في حق غيره ،وتكون مما يدخل السرور على قلبه ترفع قدره عنده ، ويكسب أغلى ما عنده وهو حبه له الذي لا مقابل له ، ولا يحصّل ولا يدرك بإنفاق ملء الأرض ذهبا . ورب كلمة يفوه بها الإنسان في حق غيره، وتكون مما يسخطه عليه، تضع من قدره عنده ، ويحوز بها أقبح ما عنده، وهو الكره الذي لا يزيل شره وسوءه إنفاق ملء الأرض ذهبا .
وقد يعبر كل إنسان عن حبه لغيره ، فإذا سئل عن سر هذا الحب ، وكيف ناله هذا الغير، كان عبارة عن كلمة فاه بها في حقه دون أن يلقي لها بالا ، فأدخلته أعماق قلبه ووطّدت له فيه. و قد يعبر كل إنسان أيضا عن كرهه لغيره ، فإذا سئل عن سرهذا الكره ، كان عبارة عن كلمة فاه بها في حقه دون أن يلقي لها بالا ، فجعلت في أعماق قلبه سواد كره بدلا عن بياض حب .
إن الإنسان بنطقه وهو يحاور الناس بحلو كلامه يقطف باقات ورود الحب من قلوبهم إن هو أحسن التلفظ بحلو أو معسول الكلام ، ويجني أشواك الكره منها إن هو أساء التلفظ بمرّ الكلام أو بحنظله .
وفي قلب كل إنسان حيز فسيح يعبق بأريج الحب العطر يتربع فيه من يحبهم لحلو كلامهم معه ، وحيز آخر ضيق يفوه بنتن الكره يقبع فيه من يكرههم لمرّ كلامهم معه .
وعجيب كل العجب أمر ما يتلفظ به الإنسان ، فكم من كلام يحرك مكامن الحب في القلوب ، وكم من كلام يضرم فيها لهب الكره . وكم جاد أهل السلطان بالعطايا النفيسة على من أسمعهم حلو الثناء ، وكم ألحقوا من شر وبيل بمن أقذعهم بسلاطة اللسان .وكم من إنسان يحمل لسانه صولجان الرفعة بين الناس وهو لا يدري ، وكم من إنسان يحمل لسانه حتفه وهو غافل عن ذلك .
وقد يتعذر النطق أحيانا فتنوب عنه الإشارة ترتسم على المحيا أو تكشف عنها قسماته أو تبوح بها العين ، فإن نابت عن حلو الكلام، طرقت أبواب القلوب لحيازة ما بها من حلو المودة ، وإن نابت عن مر الكلام حازت ما بها من مر الكره .
شتان بين من يشيد على سبيل المثال بقلم سيّال ، فيصف إعجابا صاحبه بالكتوب ، وبين من يحط منه بوصف سيولته بالإسهال ، فالأول ذو ذوق رفيع نال بمدحه مودة ومحبة ، والثاني مريض الذوق أورثه قدحه كرها ومهانة وخسة.
وفي الأخير نختم بالقول إن الإنسان ليعرف مكانته عند الناس بما يتكلمون به في شأنه ، فيرفع بذلك منهم ويضع .وإن الكلمة لتحدث في النفس البشرية العجب العجاب ، ذلك أن كل كلمة تدل على حب يفوه بها اللسان أو تنوب عنه في ذلك إشارة أو إيماء ،تجعل من يسمعها غارقا في بحر من السعادة مع أنها تفضي في نهاية المطاف إلى حرفين حاء وباء، يلوكهما اللسان أو تدل عليهما الإشارة ولكن لهما سحر عجيب في النفس البشرية .وأفدح ما يلحق الإنسان من ألم مبرح في حياته ألا يبادله من يكن له الحب أو يصارحه به حبا مثله لا تصريحا ولا تلميحا. وما أحقر من يحب أخذا بلا عطاء .
Aucun commentaire