في زمن انحدار القيم الأخلاقية غير المسبوق في عالم اليوم تحول انقلاب عسكري دموي على الشرعية والديمقراطية إلى ثورة تمجّد ويصفق لها
في زمن انحدار القيم الأخلاقية غير المسبوق في عالم اليوم تحول انقلاب عسكري دموي على الشرعية والديمقراطية إلى ثورة تمجّد ويصفق لها
محمد شركي
نقلت وسائل الإعلام العالمية اليوم نقلا عن وسائل الإعلام المصرية كلمة متزعم الانقلاب العسكري الدموي على الشرعية والديمقراطية في مصر ، وهو يمجّد عمله الانقلابي، ويسميه دون خجل ثورة تعد بكرامة وعزة الشعب المصري . ولاشك أن الذي حمله وشجعه على هذا الفعل هو ما تعرفه القيم الأخلاقية في عالم اليوم من انحدارغير مسبوق إذ لو بقي شيء من هذه القيم سائدا لسمي انقلابه الدموي باسمه الحقيقي ، ولكان ضمير عالم تحكمه القيم الأخلاقية قد تحرك ساعة وقوعه لتخليص تجربة ديمقراطية فتية غير مسبوقة انتصارا للشرعية وللديمقراطية إلا أن ما حدث هو أن الدول الكبرى التي تنصب نفسها وصية على الشرعية والديمقراطية في هذا العالم والتي تحرك بين الحين والآخر قواتها العسكرية تحت ذريعة أو شعار حماية الشرعية والديمقراطية لردع العدوان عليها الذي يكون عادة عبارة عن انقلابات عسكرية .
ولا ندري كيف سمحت هذه الدول لنفسها بصمّ آذانها وغض طرفها عن جريمة هذا الانقلاب التي أطاح برئيس شرعي ، وزجّ به في الأسر ليموت في ظروف غامضة بذريعة علة صحية، وهو الذي كان كما يقول المصريون « زي الحصان » وفي تمام عافيته وهوعلى رأس الدولة المصرية لا يشكو علة ، كما هذا الانقلاب أزهق أرواحا كثيرة كان أصحابها في اعتصامات دفاعا عن الشرعية التي صوتوا عليها في انتخابات شفافة ونزيهة لم تعرفها مصر من قبل ؟
ولا شك أن الذي حمل تلك الدول الكبرى على الصمت وغض الطرف على أشنع جريمة في حق شعب بكامله هو حرصها على مصالحها في زمن سيادة منطق المصالح على منطق القيم الأخلاقية ، وعلى رأس تلك المصالح مصلحة الكيان الصهيوني المحتل لأرض فلسطين وغيرها من الأرض العربية، ذلك أن التجربة الانتخابية غير المسبوقة التي خاضها الشعب المصري كانت مؤشرا على نهاية مرحلة شلّ إرادته المفروض عليه من قبل أنظمة الحكم العسكري المتتالية، الشيء الذي كان سيجعل هذا الشعب العربي الذي قدم التضحيات من أجل عروبة فلسطين واستقلالها ،يسترجع ما عطّل من إرادته لعقود ، ذلك أن إقباله على انتخابات تأكد من شفافيتها ومصداقيتها، كان يعني أنه بإمكانه أن يفرض إرادته على من كانوا يحكمونه بقبضة حديدية وبالاستبداد والتي هي من إرادة الله عز وجل .
ولئن سمى اليوم وأمس متزعم الانقلاب الدموي جريمته في حق الشعب المصري ثورة ستكسبه عزة وكرامة ، فإنه صدق في اعتبارها ثورة ،ولكنها في الحقيقة ثورة مضادة لثورة الشعب في يناير والتي جاءت ببشائر العزة والكرامة الحقيقيتين لشعب أرض الكنانة .
وأية عزة ، وأية كرامة يتحدث عنها عسكري يداه ملطخة بدماء الأبرياء وهو يستعبد اليوم شعب مصر شر استعباد ؟ ويكفي أن يجول المرء عبر القنوات الإعلامية التي يسخرها لتقوم بالدعاية له ليعرف كيف يدوس على كرامة وعزة هذا الشعب . إن هذه القنوات الإعلامية المأجورة التي تسبح بحمده ليل نهار، وتضفي عليه الصفات والنعوت التي تتبرأ منه براءة الذئب من دم نبي الله يوسف عليه السلام باعتباره غاصبا للسلطة بالعنف الدموي وبالإرهاب . ولا يملك الإنسان وهو يتابع تلك القنوات المستأجرة أن يمنع نفسه من الضحك سخرية ممن يمجدونه كما كان غيره من الحكام السابقين المستبدين يمجدون . وربما خيّل أحيانا لمن يعرف خفة دم الشعب المصري وتفكهه ،وهو يتابع تمجيد متزعم الانقلاب بشكل فاق حدود المبالغة أن الأمر يتعلق بمدح يشبه الذم كما يقول نقاد الشع ، ذلك أن المدح المبالغ فيه غالبا ما يراد به الذم .
وما الذي فعله هذا الانقلابي لمصر ليمجد كل هذا التمجيد ، وهو يمسك بزمام أمور البلاد بقبضة من حديد بعدما أجهز على أهم مكسب حققه الشعب المصري بثورة ربيعه ؟ وماذا من فخر يفخر به في جريمة إطلاق النار على معتصمين خرجوا للدفاع عن ثورتهم ، وحمايتها من سفاك دمائهم ؟ وماذا من مجد يحمد في الزج بالآلاف منهم في السجون والمعتقلات الرهيبة ،وهم اليوم يواجهون الموت داخلها بسبب تفشي وباء كورونا وقد كانوا قبل ذلك يعانون من كل الأمراض المزمنة ومن التعذيب الذي لا يقل قسوة عن أساليب التعذيب في المعتقلات النازية والمعتقلات الصهيونية ؟ وماذا من كرامة يتشدق بها متزعم الانقلاب في تصفية عشرات الأطباء المرابطين في خندق لمواجهة جائحة كرونا بشجاعة نادرة وباستماتة من خلال حرمانهم من أبسط وسائل الوقاية وأبسط وسائل العلاج ، والزج بهم في مواجهتها دون سلاح طبي ككل أطباء المعمور ،و في المقابل تهديدهم إن لم يخوضوا هذه الحرب غير المتكافئة مع الجائحة بالسجن والاعتقال ليموتوا بنفس الطريقة التي مات بها زملاؤهم في المستشفيات ؟
وماذا من عزة وكرامة في الزج بالجيش المصري لخوض حرب إلى جانب عصابات المرتزقة الإجرامية ضد الشعب الليبي الذي يدافع عن وحدة أراضيه ، وعن ثورة ربيعه التي لم يرض الإجهاز عليها على يد سفاح من فلول النظام البائد كما أجهز متزعم الانقلاب على ثورة ربيع شقيقه الشعب المصري ؟
لقد قلب انحدار القيم الأخلاقية في عالم اليوم كل الموازين حيث صار المسميات تسمى بغير أسمائها ، فصار الانقلاب العسكري الدموي يسمى ثورة مجيدة تحقق العزة والكرامة لشعب طالما انتظر فرصة ربيعه ليتحرر من قيود الاستبداد الذي جثم على صدره منذ رحيل الاحتلال البريطاني . ومع هذا الانحدار في القيم الأخلاقية ساد الصمت على انقلاب الموازين في هذا العالم ،لأن دول كبرى أو قوى عظمى تريد فرض وضع خاص فيه يخدم مصالحها .
وهل كان بالإمكان أن يروّج في هذا العالم لصفقة القرن المشئومة التي يراد بها طمس معالم الوطن الفلسطيني لو أن ثورة يناير لم يجهز عليها ؟ ، وهل كانت أطماع أعداء ثورات الربيع العربي سيتسع نطاقها ،فتنقل عدواها كما حصل في مصر إلى أقطار عربية أخرى ؟
وفي الأخير نتساءل متى سيسترجع عالم اليوم قيمه الأخلاقية المفقودة لتسمى المسميات بأسمائها الحقيقية ، فتسمى الانقلابات الدموية انقلابات ، وتسمى ثورات الشعوب ثورات، وتسمى الديمقراطيات ديمقراطيات ، ويسمى الاستبداد استبدادا ؟ وهل بمقدور عالم اليوم أن يسترجع قيمه الأخلاقية المفقودة ؟ ذلك ما تنتظره شعوب المعمور عموما والشعوب العربية على وجه الخصوص.
Aucun commentaire