في الذكرى 21 لاستشهاد ناجي العلي : ضمير القضية الفلسطينية الحي
في الذكرى 21 لاستشهاد ناجي العلي
ضمير القضية الفلسطينية الحي
إذا كنت في زيارة لمدينة لندن , فلا تنس أن تزور مقبرة بروك وود الإسلامية .ففيها قبر يحمل رقم 230190 و هو القبر الوحيد الذي لا يحمل شاهدا ,ولكن يرتفع فوقه العلم الفلسطيني. إنه قبر ناجي العلي.
الحديث عن ناجي العلي يؤرق الأقلام و يحفيها. و يجعل من العبارات تتعب في تسلق علياء الرجل, إنه ناجي الصمود في وقت الخنوع .إنه ناجي فلسطين المقاومة في زمن المساومة , إنه ناجي والد حنظلة و ما أدراك ما حنظلة !
اسمه الكامل هو: ناجي سليم حسين العلي. اختلف في تاريخ مولده, ولكن الثابت أنه ما بين 1936و 1938, رأى النور في قرية الشجرة ,وهي قرية تقع بين الناصرة و طبرية في الجليل الشمالي من فلسطين المحتلة.و في هذا يقول ناجي " اسمي ناجي العلي.. ولدت حيث ولد المسيح ، بين طبرية والناصرة ، في قرية الشجرة بالجليل الشمالي، أخرجوني من هناك بعد 10 سنوات ، في 1948 إلى مخيم عين الحلوة في لبنان .. أذكر هذه السنوات العشر أكثر مما أذكره من بقية عمري، أعرف العشب والحجر والظل والنور ، لا تزال ثابتة في محجر العين كأنها حفرت حفراً .. لم يخرجها كل ما رأيته بعد ذلك ." وبعد نكبة 1948 دُمرت قريته تماماً، ليبدأ مسلسل طويل من التهجير و التشريد, ،فكانت المحطة الأول بنت جبيل رفقة أسرته الفقيرة التي كانت تحترف الزراعة ، لجأ إلى مخيم عين الحلوة شرق مدينة صيدا حيث سكن وعائلته بالقرب من بستان أبو جميل قرب الجميزة منطقة " عرب الغوير". دخل مدرسة " اتحاد الكنائس المسيحية " حتى حصوله على شهادة " السرتفيكا" اللبنانية، ولما تعذر عليه متابعة الدراسة ، اتجه للعمل في البساتين وعمل في قطف الحمضيات والزيتون.ثم انتقل إلى طرابلس فالتحق بالمدرسة المهنية التابعة للرهبان البيض ثم غادرها بعد ذلك إلى بيروت حيث عمل في ورش صناعية عدة.ثم شد الرحال سنة 1957 إلى السعودية بعدما حصل على دبلوم الميكانيكا وأقام فيها سنتين ، كان يشتغل ويرسم أثناء أوقات فراغه، ثم عاد بعد ذلك إلى لبنان.
يقول ناجي عن ميلاد موهبته في الرسم : "كنت صبياً حين وصلنا زائغي الأعين ، حفاة الأقدام ، إلى عين الحلوة .. كنت صبياً وسمعت الكبار يتحدثون .. الدول العربية .. الإنكليز .. المؤامرة .. كما سمعت في ليالي المخيم المظلمة شهقات بكاء مكتوم .. ورأيت من دنت لحظته يموت ،وهو ينطلق إلى الأفق في اتجاه الوطن المسروق ، التقط الحزن بعيون أهلي ، وشعرت برغبة جارفة في أن أرسمه خطوطاً عميقة على جدارن المخيم .. حيثما وجدته مساحة شاغرة .. حفراً أو بالطباشير… وظللت أرسم على جدران المخيم ما بقي عالقاً بذاكرتي عن الوطن ، وما كنت أراه محبوساً في العيون، ثم انتقلت رسوماتي إلى جدران سجون ثكنات الجيش اللبناني ، حيث كنت أقضي في ضيافتها فترات دورية إجبارية .. ثم إلى الأوراق .." ثم كان الموعد مع اللحظة التي غيرت مسار حياته, فقد حدث أن زار الأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني مخيم عين الحلوة ولفت انتباهه رسوم ناجي فأعجبته , و أخذها و نشرها في مجلة الحرية. توجه بعد ذلك إلى دراسة الفن أكاديمياً ، فالتحق بالأكاديمية اللبنانية لمدة سنة و لكنه لم يكمل نتيجة الضيافات المتكررة في السجون والثكنات اللبنانية. يقول ناجي عن هذه الفترة :" فقررت أن أسافر إلى الكويت لأعمل بعض الوقت .. وأقتصد بعض المال .. ثم اذهب بعدها لدراسة الرسم…. ..
و وصلت بالفعل إلى الكويت عام 1963، وعملت في مجلة" الطليعة " التي كانت تمثل التيار القومي العربي هناك في ذلك الوقت .. كنت أقوم أحياناً بدور المحرر والمخرج الفني والرسام والمصمم في آن واحد .. وبدأت بنشر لوحة واحدة .. ثم لوحتين ..وهكذا .. وكانت الاستجابة طيبة .. شعرت أن جسراً يتكون بيني وبين الناس ، وبدأت أرسم كالمحموم " "
ترك الكويت عدة مرات ثم عاد إليها . في سنة 1968 عمل في جريدة السياسة الكويتية لغاية العام 1975 . ليولي الوجهة إلى جريدة السفير اللبنانية التي بقي فيها إلى حدود عام1983ليغادرها مكرها من جديد إلى الكويت.عايش ناجي الحرب الأهلية اللبنانية الطاحنة كما شهد الاجتياح الصهيوني لبيروت . و نال حظه من الاعتقال أيضا , فقد أكرم في أزيد من أربعة اعتقالات و لحسن حظه أن الجيش الصهيوني لم يحقق في هويته و إلا……..
يصف ناجي أيام الاجتياح و الحصار : " …. مر وقت ظن فيه الناس أني مت ، إلى أن مرت إحدى الصديقات في صيدا، واكتشفت أني موجود فأعطيتها رسومات لي لكي يطمئنوا في السفير ويتأكدوا من أني ما زلت حياً . فقد كانت المدينة محاصرة ، وانتهى بي تفكيري إلى ضرورة الذهاب إلى بيروت ، فودعت زوجتي وأولادي وذهبت ، كان من الصعب أن أصل ليس فقط بسبب الإسرائيليين، ولكن أيضاً بسبب الكتائب الذين كانت معرفتهم بأني فلسطيني سبباً كافيا لقتلي…… وأتساءل ما الذي بإمكان المرء أن يفعله في مواجهة هذا القصف من الجهات الستة (من الأربع جهات ومن الجو والسيارات المفخخة ) " . بعد تركه لصحيفة السفير، عاد إلى الكويت مرة أخرى حيث عمل في صحيفة القبس ، تعرف في الصحيفة على الشاعر العراقي أحمد مطر, الشاعر الثائر المنفي بدوره من وطنه العراق , و ربطته معه صداقة عميقة، تركت بصماتها على القبس يوم ذاك، فقد كان أحمد مطر يبدأ القبس بلافتته في الصفحة الأولى، وكان ناجي العلي يختمها بلوحته الكاريكاتيرية في الصفحة الأخيرة. بقيت القبس تحلق بجناحيها الشعري والكاريكاتيري حتى صدر أمر بإبعادهما معا من الكويت عام 1986، وقيل إن تهديدات وصلت السلطات الكويتية بأن عليها أن تختار بين قتل الرجلين على أرضها أو إبعادهما فاختارت أهون الشرين. توجه ناجي إلى لندن مع رفيقه مطر, لقد كانت العملية مجرد تغيير للمنفى ليس إلا , وعملا في نسخة القبس الدولية هناك. إلى أن طالته يد الغدر و الإرهاب .تبدأ قصة اغتياله في الساعة 5س13 بتوقيت غر ينتش من بعد ظهر يوم الأربعاء 22/7/1987عندما وصل ناجي العلي إلى شارع آيفز , حيث يقع مكتب صحيفة " القبس " الدولية ، وبينما كان متوجهاً إلى مقر الصحيفة , اقترب منه شاب مجهول، و أطلق عليه رصاصة من مسدس أصابته قرب انفه ، سقط بعدها ناجي على الأرض فيما فر الجاني ، الذي فتح صفحة جديدة في تاريخ الاغتيالات العربية . و بعد غيبوبة طويلة قاوم فيها ناجي مدة 38 يوم انتقلت روحه الطاهرة ملبية نداء ربها .كان ذلك في 29-08-1987
نشرت جريدة الأوبزيرفر البريطانية رسما..للشهيد ناجي العلي.تحت عنوان النكتة التي كلفت الرسام حياته ,وذلك بعد اغتياله في تموز العام 1987في لندن.وفي الرسم يسأل الأول الثاني
بتعرف رشيدة مهران؟
الثاني يجيب: لا…
يسأل الأول سامع فيها..؟
يجيب الثاني :لا…
الأول يقول للثاني: ما بتعرف رشيدة مهران ولا سامع فيها ..!!! وكيف صرت عضو بالأمانة العامة لاتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين؟..لكان مين يللي داعمك بهالمنظمه يا أخو الشليته !!
.. يقول الفلسطينيون أن الصحافية التونسية رشيدة مهران كانت عشيقة لياسر عرفات .. , و أنها وضعت كتابا عنوانه .." عرفات إلهي" !!! وأن رشيدة كانت مسموعة الكلمة في أوساط الفلسطينيين النافذة.
مجلة الأزمنة العربية التي كان يصدرها في قبرص الشهيد غانم غباش وتمثل وجهة نظر المعارضة الفلسطينية في الإمارات ..نشرت بعد اغتيال ناجي وفي عددها 170 الصادر في آب 1987 لقاءا صحفيا كانت قد أجرته ناجي العلي قبل اغتياله بيومين في منزله بلندن وبحضور زوجته أم خالد . جاء فيه قول ناجي: لا تظنوا أنها إحدى الفدائيات .. رشيدة مهران سيدة مهمة تركب الطائرة الخاصة لرئيس منظمة التحرير وتسكن قصرا في تونس وتقرب وتبعد في المنظمة وهيئاتها..رسمت عن رشيدة مهران وبعدها انهالت علي التهديدات والتهاني والتعاطف…
تصوروا أن واحدا من طرف أبو إياد أبلغني سروره من الرسم وقال أني فعلت الشيء الذي عجز عنه الكبار في المنظمة عن فعله.. لكنه أضاف أنني بهذا قد تجاوزت الخطوط الحمر، وأنه خائف علي وأنه يجب أن أنتبه على حالي . فقلت له:يا أخي لو انتبهت لحالي لما بقي لديّ وقت أنتبه فيه إليكم…..
وقد نعاه الجميع ، وكتب عنه بإسهاب من اليمين إلى اليسار، ومن المحب إلى الكاره كما نعتته وكتبت عنه الصحافة العالمية من شرق آسيا حتى غرب أوروبا، ما عدا مجلة الكر مل الناطقة باسم اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين الذي كان العلي عضوا مؤسسا فيه والتي كان يرأس تحريرها الشاعر الذي فقدناه مؤخرا محمود درويش، فلم تأت المجلة على ذكر اغتياله وموته بكلمة واحدة، سواء من قبل جهاز تحريرها ،أو الشعراء الذين يكتبون فيها، والتزمت الصمت التام.
كرمه ناشرو الصحف الغربيون بعد استشهاده بقليل، فمنحوه جائزة الفيلم الذهبي للحرية تقديرا لفنه الذي كرسه لخدمة المجتمع ولما قدمه من إنتاج فني ضخم فريد في قيمته وأسلوبه. وقال الاتحاد الدولي لناشري الصحف ومقره باريس، أن الجائزة منحت إلى ناجي العلي بعد وفاته وهي الأولى من نوعها التي تمنح لرسام كاريكاتير أو مواطن عربي منذ 27 عاما، ووصف الاتحاد في بيانه ناجي بأنه واحد من أعظم رسامي الكاريكاتير منذ نهاية القرن الثامن عشر، وأوضح الاتحاد الذي يضم 28 دولة، أن الجائزة منحت تقديرا لأعماله البارزة من أجل حرية التعبير. كما ربطت جريدة «نيويورك تايمز» بينه وبين الجماهير، حين قالت «إذا أردت أن تعرف رأي العرب في أميركا، فانظر إلى رسوم «ناجي العلي». و وصفه أحد رسامي كاريكاتير مجلة «التايم» الأميركية «هذا الرجل يرسم العظم البشري». حتى مدير تحرير صحيفة «أساهي» اليابانية قال «أن ناجي يرسم بحمض الكبريتيك، ماء النار (الأسيد)». كما انه اختير ليكون من أفضل عشرة رسامي كاريكاتير في العالم .
كما أنجزت عنه ثلاثة أفلام سينمائية . مسيرة الاستسلام في العام 1981 من إخراج محمد توفيق التي ارتكزت على رسومه الكاريكاتورية، وتناول المشهد السياسي في العالم العربي بين 1973 و 1979، وانعكاسه على القضية الفلسطينية . و فيلم مصري بعنوان «ناجي العلي» أنتج في العام 1992 من إخراج عاطف الطيب ، وبطولة نور الشريف، تمحور رغم اختزاليته حول شجاعة هذا المناضل في تناول الرموز السياسية الرسمية في العالم العربي.ثم ناجي العلي فنان صاحب رؤيا أنتج في العام 1999 ويصور الفيلم مسيرة ناجي العلي الشخصية والإبداعية، بدء بولادته في الجليل حتى اغتياله في لندن. ويحاول أن يسلط الضوء على العوامل التي صقلت موهبته وأسلوبه وشخصيته، فكان هذا الفنان الذي اختزلت رسومه وحياته معاناة الشعب الفلسطيني، وكل مواطن عربي يعيش تحت وطأة الظلم والقهر..
ترك ناجي ثروة كاريكاتيرية .تراوحت حسب النقاد ما بين 15ألف و 40 ألف رسم ,و ثلاثة إصدارات. الرابع كان يتهيأ لإصداره ولكن المنية وافته .و خلف أربعة أبناء هم : خالد ، أسامه ، ليال , جودي.و طبعا ابنا خامسا هو " حنظلة " , الذي يعرفه ناجي بأنه يمثل ابنه و ضميره و ظله : " حاولوا أن يجعلوني " رسام القبيلة" … مع هذا النظام ضد ذاك .. ولكن كيف أقبل و " حنظلة " معي دائماً .. إنه رقيب لا تتصور مدى قسوته .. إنه يعلم ما بداخلي ، وهو يراقب هذا الداخل كحد السكين ، فإذا أردت أن أستريح لكزني ، وإذا فكرت في الرفاهية وحسابات البنوك ذكرني بنفسي .. بأصلي وبناسي وأهلي وشعبي .. أستطيع أن احتال على الرقباء الرسميين ، فبعضهم لا يفهم المقصود من رسمي ، وأغلبهم لا يفهم أصلاً ، ولكنني لا أستطيع أن احتال على حنظلة .. لأنه ولدي . . .. سنوات طويلة مرت وأنا أرسم .. شعرت خلالها أنني مررت بكل السجون العربية ، وقلت " ماذا بعد ذلك ؟" كان لدي استعداد عميق للاستشهاد دفاعاً عن لوحة واحدة .. فكل لوحة أشبه بنقطة ماء تحفر كجراها في الأذهان . " و قد كان لناجي العلي ما تمنى.و نال شرف الاستشهاد في سبيل أنبل قضية و أشرفها .
ذ: رشيد شريت
Cherriet.presse@gmail.com
Aucun commentaire