قراءة سوسيولوجية لأحسن القصص 18 بقلم عمر حيمري
عفى يوسف عليه السلام عن الإخوة ، وهدأ من روعهم ، وأزال مخاوفهم من الانتقام ، وبعد اطمئنانهم ، انتقل بهم من الحديث عن الماضي ومآسيه وعن الصفح ، إلى الحديث عن أبيه وحالته الصحية وعن الظروف المعيشية للأهل جميعا وهو المشتاق إلى الاطلاع وإلى معرفة الأخبار بعد غياب طويل ، عن الأهل والموطن ، وبدون شك يكون يوسف عليه السلام ، قد صعق وجزع لما سمع بأن أباه ابيضت عيناه وأصابه العمى من شدة الحزن عليه . وبلا شك أن يوسف عليه السلام ، لم يتصرف من ذاته ، وإنما بوحي من الله أمر عليه السلام الإخوة بالعودة إلى البلد وإلقاء القميص على وجه أبيه ليعود إليه بصره . [ اذهبوا بقميصي هذا فالقوه على وجه أبي يات بصيرا واتوني بأهلكم أجمعين ] ( يوسف آية 93 ) .
يعود القميص ويظهر من جديد ، ولكن هذه المرة ، كآية ودليل على نبوة يوسف عليه السلام ، وكمعجزة أجراها الله سبحانه وتعالى على يد يوسف عليه السلام . بعد أن كان هذا القميص في السابق ، دليلا مرة على براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام ومرة أخرى دليلا على براءة يوسف عليه السلام من تهمة زليخة . وهنا افتح عارضة لأقول : لقد تمكن العالم المصري د/ عبد الباسط محمد سيد الباحث بالمركز القومي للبحوث التابع لوزارة البحث العلمي والتكنولوجية بمصر من إثبات هذه المعجزة الواردة في سورة يوسف عليه السلام علميا وحصل على براءة اختراع مرة من أوربا وأخرى من أمريكا لتمكنه من تحضير قطرات عيون مستخلصة من العرق تعالج المياه البيضاء .
انطلقت العير ، راجعة ، تحمل البشرى والقميص المعجز ليعقوب عليه السلام ، الذي كان ينتظر على أحر من الجمر ما ستأتي به الأخبار وما سيحمله الأبناء من مفاجآت ، وبما أنه يعلم من الله ما لا يعلمون ويؤمن بأن كل ما وعد الله به يوسف عليه السلام في رؤياه سيتحقق . وها هي البشرى تصله قبل أن يصل البشير ، ويصل القميص ، إذ وجد يعقوب عليه السلام ريح يوسف ، وهذه معجزة أخرى تجاوزت وخرقت القوانين الطبيعية المتعارف والمعتاد عليها ، إذ تم التواصل بين يعقوب وبنه عليهما السلام ، عن طريق الرائحة التي تحملها الريح وتنقلها ليشتمها يعقوب عليه السلام ، من مسافات بعيدة ، قدرها بعض المفسرين ، بمسيرة سبعة أو ثمانية أيام والله أعلم . ولكن الأكيد والموثوق به والذي أخبرنا به القرآن الكريم ، أن رائحة يوسف عليه السلام ، اشتمها يعقوب عليه السلام ، قبل أن تصل العير ويصل البشير والقميص . وفي عصرنا هذا ، يصلنا الصوت والصورة عبر الأنترنيت من مسافات لا أستطيع تقديرها لبعدها ، فقد تنتقل من قارة إلى قارة أو عدة قارات في نفس الوقت الذي تبعث فيه ولكن معجزة وصول الرائحة إلينا لنشتمها من مسافات بعيدة تظل قائمة ، فنحن لا نستطيع أن نشم الرائحة ولو كانت قوية نافذة كرائحة البلاستيك ومشتقاته ورائحة مطارح الزبال ، إلا من مسافة قريبة قد لا تتجاوز في أفضل الأحوال بعض مئات الأمتار ، وتبقى إذن معجزة رائحة يوسف التي اشتمها أبوه خاصة بيعقوب عليه السلام أجراها الله على يده . ويبقى للحب رائحة لا يحسها ويشعر بها ولا يعرفها إلا من خبر الحب واكتوى بناره [ ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا تفندون ] ( يوسف آية 94 ) . وهنا أثير الانتباه ، إلى أن هذه الآية الكريمة ، تدل على أن يعقوب علي السلام ، لم يبعث كل أبنائه ليتحسسوا أخبار يوسف عليه السلام وأخيه ، بل بقي بعضهم إلى جانبه يرعى مصالح الأسرة ويقوم على شأنها ويحرسها ويذود عنها ، بدليل توجيه الخطاب للمجودين والحاضرين معه فقط ، لأن باقي الأبناء أرسلوا في مهمة البحث وتقصي الأخبار عن يوسف وأخيه وهم لم يصلوا بعد ، فهم ضمن العير القادمة والتي تحمل القميص . إذن هو خاطب الحاضرين بقوله » لولا تفندون » ، لأنه كان متأكدا ويعلم بأن أبناءه سيكذبونه ويلومونه ويعجزونه ، لأنه تعود وألف ذلك منهم . وبالفعل جاء ردهم سريعا وكما توقعه يعقوب عليه السلام . [ قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم ] ( يوسف آية 95 ) . شكك الأبناء في سلامة تفكير أبيهم و سلامة عقله وتقديره للأمور [ إن أبانا لفي ضلال مبين ] ( يوسف آية 8 ) ولكن يعقوب عليه السلام ، الذي كان يرى بنور الوحي ، رأى أن أبناءه قصيري النظر ومحجوبون عن إدراك الحقيقة ، وأن العقل الذي يقدرون به الأمور ويحللون به الظواهر التي تجري حولهم والمشكلات التي تواجههم ويتخذونه كمصدر وأداة للمعرفة ويعتمدون عليه كقدرة مطلقة قادرة على التحليل والتركيب والاستنتاج ، غير كاف وغير قادر على استشراف المستقبل والاطلاع على الغيب ، الذي هو مجال الوحي والنقل ولا حظ للعقل فيه . وهو الأمر الذي تحقق ليعقوب عليه السلام من خلال الرؤية التي قصها يوسف عليه السلام وهو صبي ، والتي هي إطلالة على الغيب تمت عن طريق الوحي ، وقد تم تأويلها بالمكانة العظيمة ، التي ستكون ليوسف عليه السلام ، والنعم التي وعده الله سبحانه وتعالى بإسباغها عليه ، كما أسبغها على أبويه من قبل إبراهيم ويعقوب وهي النبوة والحكم والتمكين في الأرض [ وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تاويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما اتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم ] ( سورة يوسف الآية 6 )
. جاء البشير وحضر القميص المعجز وارتد يعقوب بصيرا وانكشف أمر خيانة الأبناء وظهرت الحقيقة الغيبية جلية ، فذكر الأب الأبناء ، بما كان يقوله لهم فيما يتعلق بعلم الغيب فقال ما سجلته الآية الكريمة : [ فلما جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون ] ( يوسف آية 96 ) .( يتبع )
Aucun commentaire