قراءة سوسيولوجية لأحسن القصص 7 1بقلم عمر حيمري
إن التمعن في الآية الكريمة الذكورة سابقا آية 87 تبين بكل وضوح أن اليأس والاتكال وعدم الأخذ بالأسباب ، ليس من صفات المؤمنين وإنما هو من صفات الذين لا يؤمنون والمرجفون والمترددون واليائسون المتشائمون والكافرون الذين لا يؤمنون ولا يثقون في الله ولا في قدراته ويتقاعسون عن كل فعل إيجابي ويعرقلون كل مشروع خير يمكن أن ينهض بالأمة وذلك بالحكم عليه بالفشل قبل تدشينه ويضعون في طريقه كل السلبيات ، متجاوزين وقافزين على كل الإيجابيات غير ملتفتين إليها ولا مهتمين بها ، وهؤلاء هم المثبطون وهم حجر العثرة أمام أي مشرع خيري في أي أمة وفي كل زمان ومكان فعلينا الحذر منهم فلا ياتي منهم ومن جهتهم إلا الشر .
نفذ الأبناء ما أوصاهم به الأب يعقوب وشدوا الرحال إلى مملكة العزيز ولكنهم كانوا يقصدون وينوون في أنفسهم الاتجار واستبدال بضاعتهم الرديئة بالكيل لا تنفيذ وصية أبيهم ، دخلوا على العزيز وناشدوه بأن يوف لهم الكيل وأن يتصدق عليهم بالطعام ، وظلوا يشكون حالة فقرهم المزري ويشيدون بالعزيز ويذكرونه بكون الله يجزي المتصدقين ، ليستميلوا قلبه ، كل ذلك في ذل صغار ومهانة و لم يلتفتوا لوصية أبيهم ولم يفاتحوا العزيز في قضية أخيهم ولم يلمحوا له لا من قريب ولا من بعيد وكأن أخاهم لا يعنيهم وأن أبوهم لم يوصهم بذلك ولم يحثهم على البحث عن أخيهم ، وهذ التصرف في تقديري نابع الغيرة من أخيهم ومن الحسد المتمكن من نفوسهم ، ولذلك اكتفوا بطلب الصدقة واستبدال تجارتهم وأمعنوا في الشكوى من حالة فقرهم والإطناب في مدح العزيز طمعا في التقرب والتزلف إليه وكسب عطفه واستمالة قلبه ، كل ذلك في ادب شديد وبكلام بليغ يخترق الأذن وينفذ إلى القلب ، وهذا ما سجله قوله سبحانه وتعالى : [ فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين ] ( يوسف آية 88 ) وهذا السلوك الصادر منهم وبهذا الشكل في طلب الصدقة ، هو في تصوري قمة الحقارة والمذلة والمهانة ، التي عرض أبناء يوسف عليه السلام أنفسهم لها زيادة على خيانة أبيهم وطغيان الأنانية عليهم . وهذه ظاهرة اجتماعية ونفسية نبهنا إليها القرآن الكريم تتكرر في أي عصر وفي أي مجتمع ، عندما يتلازم فيها الحسد مع الخيانة وتطغى الأنانية ، تذوب المصلحة العامة وتطغى وتسود المصلحة الخاصة وهذه الخطوة هي بداية انتشار الفساد والظلم وبداية الانهيار الاجتماعي والأخلاقي وبداية احتضان واعتماد الفقهاء التبريريين للظلم والفساد بكل أصنافه ، كما يقرب الانتهازيين والوصوليين والمنافقين باختلاف أشكالهم فيحجبون الرؤيا على الحاكم فيخبط خبط عشواء ، فيبدأ الانهيار .
رق يوسف لحال إخوته لكثرة شكواهم وكذلك يفعل كل الأنبياء والصالحين لطهارة ونقاوة سريرتهم ، فكشف نفسه وشخصيته لهم دون تقريع منه لهم ، بل حاول أن يلتمس عليه السلام عذارا لهم ، إذ وصف فعلهم به بكونه صادر عن جهل منهم فقال : [ قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون ] ( يوسف آية 89 ) تفاجأ الإخوة وكان بدون شك موقفا صعبا بالنسبة إليهم وحرجا شديدا ، فما كان منهم إلا أن بادروا بالاعتذار والاعتراف بالخطيئة ، التي ارتكبوها في حق من أصبح اليوم عزيز مصر ، وتصوروا معي الخوف والذعر الذي تملكم وانتابهم وهم يفكرون في الانتقام الذي سيتعرضون له وموقفهم الصعب أمام أبيهم وفي الفضيحة أمام القبيلة وهم الذين كانوا يدعون الدفاع عن العائلة والقبيلة [ قالوا تا الله لقد أثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين ] ( يوسف آية 91 ) ولكن شيئا لم يكن من ذلك الذي فكروا فيه وخالج نفوسهم ، إنها أخلاق النبوة وآدابها ، فهي تعفو عند المقدرة وتصفح وتسمح ولا تحقد ولا تفكر في الانتقام ، فكل مخطئ متآمر جاء معتذرا، نادما طالبا العفو والصفح يجد ما يريد وما يبتغي وما يسره ولا يقابل بمثل جرمه وخطيئته ولا يحاسب على فعله الشنيع .
إن يوسف عليه السلام من كثرة نبله قبل اعتذار إخوته ولم يلمهم ولم يبخهم ولم يقرعهم بل حاول أن يهدئ من روعهم ويطمئنهم بل ذكرهم بأن الله سبحانه وتعالى هو أرحم الراحمين ، فقال لهم ما سجلته الآية الكريمة : [ قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ] ( يوسف آية 92 ) ولم يكتف بهذا بل حاول التماس العذر لهم فلم ينسب لهم جريمة محاولة قتله ولا إلقائه في الجب ولا قولهم عن » إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل » ، بل نسب كل ذلك للشيطان كما ورد في قوله تعالى : [ ….. من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم ] ( يوسف آية 100 ) . وهكذا يتصرف كل الأنبياء مع من يسيئ إلهم ، فسيدنا عيسى عليه السلام توسل إلى الله وستعطفه رأفة بقومه ودعا لهم بأحسن وأجمل ما سمعت وقرأت من الأدعية ، فقال : ما جاء في قوله تعالى : [ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ] ( المائدة آية 118 ) . أما سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد ضرب لنا أحسن وأرقى الأمثلة على الإطلاق في الحلم والعفو والتسامح عن من أساء إليه من أهل مكة يوم الفتح إذ قال صلى الله عليه وسلم » يا معشر قريش ما ترون أني فاعل فيكم ؟ قالوا خيرا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم قال اذهبوا فأنتم الطلقاء » (حديث ضعفه الألباني ) وقصة تسامحه وعفوه عن جاره اليهودي الذي كان يؤذيه ورغم ذلك كان الرسول عليه الصلاة و السلام يعوده ويزوره في مرضه ، وتسامحه مع عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق إذ كفينه في جبته والصلاة عليه رغم اعتراض عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغم قوله تعالى [ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين ] ( سورة التوبة آية 80 ) الذي احتج به عمر ضي الله عنه فكان رده عليه السلام » فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفر لهم أو تستغفر لهم غن تستغفر لهم سبعين مرة إنما خيرني الله فقال استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة وسأزيد على السبعين » قال فصلى عليه صلى الله عليه وسلم ( صحيح البخاري باب استغفر لهم أو لا تستغفر ) .
و قصص عفوه صلى الله عليه وسلم ، عن الكثير ممن حاول قتله أو إذايته والإساءة إليه وهجائه ، تملأ كتب السيرة ، والوحي نفسه كان يحث النبي صلى الله عليه وسلم على التسامح والعفو والحلم وعلى الصبر على المكاره التي كان يجدها ويلقاها ويتعرض إليها من قبل المسيئين إليه صلى الله عليه وسلم . إذ قال الله سبحانه وتعالى مخاطبا نبيه [ … ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ] ( فصلت آية 34) ( يتبع )
Aucun commentaire