رسائل من التاريخ: رسالة إلى عبد الفرعون (3)
أحمد الجبلي
الرسالة التاريخية الثالثة هي رسالة غريبة حيث تختلف اختلافا كبيرا عن رسالة ذاك الشاب الفرنسي المريض في مستشفيات الأندلس أيام التواجد الإسلامي فيها قبل ألف سنة من الآن، وتختلف عن رسالة ملك انجلترا إلى الملك هشام الثالث، إن الأمر يتعلق برسالة من فيلسوف متخصص في دراسة التاريخ وعلم الاجتماع والأديان وهو الدكتور علي شريعتي إلى الإنسان عبد الفرعون المصري المدفون في مقابر جماعية منسية على شكل حفر على هامش الأهرامات الكبيرة الضخمة حيث يدفن الملوك الفراعنة الطغاة، وذلك حتى يخدمونهم بعد موتهم تماما كما خدموهم أثناء حياتهم.
لقد ذكر الرسالة علي شريعتي نفسه كمقالة نشرت في صحيفة خراسان اليومية، كما ذكرها فاضل رسول في الصفحات الأخيرة من كتابه: » هكذا تكلم شريعتي » مع مجموعة رسائل سواء منها تلك التي تلقاها شريعتي مثل رسالة فرانز فانون أو تلك التي بعثها إلى شخصيات بارزة في ثورات المعذبين في الأرض.
عندما زار علي شريعتي مصر،كعادته، كمتخصص في دراسة المجتمعات والتاريخ، في زيارة المآثر التاريخية التي بنتها يد الإنسان الجبارة، كما يسميها، كمعبد دلفي في اليونان، والكنائس الضخمة والقصور والتماثيل في روما، والشرق الأوسط، والصين وفيتنام وكمبوديا، حيث جبال بأكملها قد نحتها الإنسان لكي يبني معالم ومآثر للآلهة المزيفين وممثليهم الانتهازيين الكهنة.
لقد كان الوقت صيفا عندما زار علي شريعتي أهرامات مصر، وقد كان منصتا بكل انتباه لجميع الشروح التي قدمها الدليل وهو يتحدث عن عظمة هذه الأهرامات وعن كيفية بنائها، وعن العبيد الذين حملوا ما بلغ ثمانمائة مليون صخرة من أسوان إلى الجيزة قرب القاهرة ليشيدوا تسعة أهرامات، ثلاثة منها كبيرة هي الأكثر شهرة في العالم.
إن المسافة التي كان يقطعها العبيد الذين قدر عددهم بثلاثين ألف عبد لجلب تلك الصخور الضخمة تقدر ب 900 كلم، فقط ليتم بناء قبور الفراعنة التي استقرت بها أجسادهم المحنطة، ولقد استمر هذا البناء والأعمال الشاقة القاتلة المرعبة على مدى ثلاثين سنة.
وعندما رأى شريعتي مجموعة من الحجارة قد وضعت على شكل أكوام غير منتظمة قرب الأهرامات، سأل عنها الدليل فأخبره أنها قبور العبيد الذين كانوا يسقطون ويلفظون أنفاسهم من العياء، وهي ليست ذات قيمة أثرية تذكر.
فلم يلتفت شريعتي لما قاله الدليل و لم يعره أي اهتمام بل وأصر على أن يجلس بجانب هذه القبور وهو يتأمل هؤلاء العبيد وهم يقومون ببناء قبور فراعنة التاريخ. فأحس بعلاقة حميمية قوية تربطه بهم وأن هناك قواسم مشتركة كثيرة بينه وبينهم رغم بعد المسافات ورغم أنه من بلاد غير بلادهم. وأعاد النظر من جديد، حينها، ملتفتا إلى أهرامات الفراعنة الشاهقة فنظر إليها نظرة احتقار وازدراء نظرا لما ألحقوه بهؤلاء البشر العبيد من ظلم وإذلال وضرب وقتل.
وعندما عاد إلى منزله شرع في كتابة رسالة إلى أحد هؤلاء سماها حسب بعض الروايات: هكذا كان يا أخي، وفي مصادر أخرى سماها: رسالة إلى أخي عبد الفرعون جاء فيها بتصرف:
أخي: حدث بعدك تحول كبير، فقد بدأ الفراعنة والقياصرة وطواغيت العالم يتغيرون في تفكيرهم، فتركوا عقائدهم عن الموت وبناء القبور كي تبقى الأرواح فيها حية، وقد فرحنا لذلك التحول كثيرا، إذ لاحت لنا نهاية المسيرات المرهقة والمهلكة التي جلبنا بها ملايين الأحجار من مسافة ألف كيلومتر، ورصفناها على بعض كي نصنع قبرا خالدا.
لكن الفرحة لم تعمر طويلا، فقد أغاروا على قرانا وضياعنا مرة أخرى، وساقونا عبيدا ليحملونا الصخور مرة أخرى، لا لبناء القبور وإنما لبناء قصورهم وأسوارهم، تلك القصور والأسوار التي قامت بدمائنا وعلى أشلائنا. غرقنا مرة أخرى في لجة اليأس، وكدنا نفقد آخر بصيص من نور الأمل، إلى أن جاء بشير الخلاص، فجاء الحكيم كنفوشيوس وبدأ ينشر تعاليمه عن الإنسان والإنسانية والمجتمع، وقد صدقنا قوله، إلا أننا رأيناه يصبح وزيرا في دولة (لو) ونديما للأمراء والحكام.
أما بوذا الذي كان من أمراء (بنارس) فقد انقطع عنا واعتزل العالم ليخلو إلى نفسه في محاولة لبلوغ النيرفانا، وقد اعتكف ليخرج للجياع بمنظومة أفكار فلسفية ورياضية حول ذاك.. وزرادشت الذي خرج في أذربيجان، لم يتجه نحونا نحن المحرومين والمعذبين، بل توجه نحو مدينة (بلخ) حيث استقر في بلاط الملك كشتاسب، كذلك ماني الذي ركز على مسألة النور والظلام وهو يجمعنا حوله نحن المعذبين وأسرى الظلام، فتوسمنا فيه خيرا ونورا واعتبرناه المنقذ المنتظر. لكنه ما لبث أن لملم وعوده العريضة وعبر عن حقيقة توجهه في كتاب أهداه إلى الملك الساساني شاهبور، ثم بارك حفل تتويجه، وكان له شرف مرافقته الموكب الملكي إلى سرنديب، والهند وبلخ، وبعد ذلك كله بدأ يبرز هزيمتنا بهذه الأنشودة: (كل من يهزم ويندحر فهو من طينة الظلام، وكل من ينتصر ويتفوق فهو من ذات النور) لقد كان هذا هو كل ما انشده لنا.. نحن المهزومون عبر التاريخ.
لقد ذهبت أنت يا أخي ضحية بناء قبور الفراعنة، بينما جعلت أنا فداء لقصور الحكام وقلاعهم الشاهقة. ووجدت نفسي مكبلا بقيود خلفاء فرعون وقارون الذين استرقونا وسخرونا لخدمتهم. لقد شكل هؤلاء الخلفاء طبقة رجال الدين الرسميين (الكهنة)، التي أصبحت طبقة فوقية متنفذة ومستكبرة، وقد كتب علي أن أخدم هؤلاء وأبني لهم القصور والمعابد الفخمة، في إيران ومصر والصين، وفي كل مكان يوجد فيه محروم مغلوب على أمره ومستعبد. إن هؤلاء القيمين الرسميين على الدين الذين ادعوا تمثيل الله وخلافة أنبيائه نهبونا الزكاة وساقونا للقتال باسم الجهاد، بل إنهم أجبرونا على تقديم فلذات أكبادنا على مذبح الأصنام قربانا للآلهة، حتى أصبحت المعابد تسقى باستمرار من دماء أبنائنا وبناتنا الأبرياء.
لقد أصبحنا نعاني أسوء أنواع الاستغلال باسم الآلهة، وذلك على أيدي فرعون وقارون وخلفائهما والقيمين الرسميين على دينهما. لقد اغتصب مؤيدو الأهواز (كهنة المجوس) ثلاثة أخماس أراضينا، وجعلونا أشباه عبيد. كذلك فعل كهنة المسيحية، حيث استولوا باسم الكنيسة على أموال وأراضي الناس.
في آلاف السنين، بنينا المعابد والقصور في روما والتماثيل الضخمة في الصين، كنا نحن نهلك بصمت أما المجد فكان يبقى نصيب الكهنة والقساوسة والمقيمين والمتاجرين به، وارثي قارون وفرعون.
ثم عرف عالمنا فلاسفة وحكماء، كان فهمهم عميقا وعلمهم غزيرا، ولكن حتى هؤلاء لم يجدونا نفعا، فأرسطو مثلا، اعتقد بأن من الناس من ولد ليكون عبدا، ومنهم من ولد نبيلا وسيدا، لذلك رأى من الطبيعي أن نبقى في الطبقة الدنيا من المجتمع نُسام العناء ونعامل بالسوط، فلذلك كان قدرنا حسب رأي أولئك الفلاسفة.
لكن العالم شهد مفاجأة جديدة، عندما ظهر نبي جديد، وقد نزل من الجبل متجها للناس، قائلا لهم (إني رسول الله إليكم جميعا). كتمت أنفاسي وأنا بين الدهشة والشك، وقال لنا (إني بعثت من قبل الله القائل: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين). عجبا، كيف يحدث الله العبيد والمستضعفين فيبشرهم بالنجاة ويجعلهم وارثي الأرض وسادة العالم، كدت لا أصدق.
قالوا: لا.. إنه يتيم، شاهده الناس جميعا وهو يرعى الغنم في سفح الجبل فتعجبت أكثر: كيف يصطفي الله رسولا بين الرعاة. فقالوا لي بل إنه آخر واحد من سلسلة الأنبياء – الرعاة -، وقد كان أجداده الأنبياء أيضاً هم من الرعاة والفقراء، فارتجفت أوصالي، وشعرت برعشة امتزج فيها الارتباك والخوف والرجاء.. فهذا نبي يبعث منا وفينا، وزال ترددي عندما رأيت حولي إخواني من الفقراء والعبيد: بلال.. ذلك العبد الحبشي.. سلمان.. أبو ذر.. إعرابي معدم من الصحراء.. سالم.. مولى زوجة أبي حذيفة وآخرون غيرهم هم من العبيد والفقراء، التفوا حول النبي ثم أصبحوا سادة قومهم.
آمنت بذلك النبي، لأن (قصره) كان بضع غرف من الطين بناها، بعد إلحاح الناس وقد ساهم هو في بنائها، و(بلاطه) كان خشبة ثبتت على سعف النخيل، هكذا كان كل متاعه في الدنيا.. وقد رحل عنها وهو لا يملك أكثر.
فهربت، ناجيا بجلدي من ظلم المؤبدين (الكهنة المجوس) الذين استرقونا وساقونا إلى حروبهم التافهة. هربت إلى مدينة النبي واعتصمت بها إلى جانب رفاقي من العبيد والمظلومين والمستضعفين في الأرض.
ولازلنا يا أخي نعيش زمنا هو في أمس الحاجة إلى رجل مثله فهو ليس كالحكماء والعلماء الذين كانوا رجال علم لا عمل، أو كانوا رجال عمل من دون علم، وكان من القادة من هو رجل علم وعمل، إلا أنه لم يكن قائد الجهاد وميادين الحروب، ومنهم من اجتمعت فيهم الصفات الثلاثة – العلم والعمل وقيادة الحروب – لكنهم لم يكونوا ثقاة وعادلين، وحتى لو توفرت الخصال الأربع في بعضهم فلم يكونوا كالعاشقين في لطفهم ورقة أحاسيسهم وخلوص حبهم لله وللناس.
Aucun commentaire