أزمة المنظومة القيمية العالمية: ما الحل؟

عبد الكريم بن رزوق
شهد العالم الغربي تحولات جذرية في منظومته الأخلاقية والقيمية، التي طالما رُوِّج لها كنموذج يُحتذى به، لكنها اليوم تُظهر علامات الانهيار في العديد من الجوانب الاجتماعية، خاصة فيما يتعلق بالأسرة، والعلاقة بين الرجل والمرأة، والتربية، ومفهوم الحرية الشخصية. هذا الانهيار لم يقتصر على المجتمعات الغربية فحسب، بل امتد تأثيره إلى المجتمعات الإسلامية، مما يدق ناقوس الخطر حول مستقبل القيم والأخلاق في هذه المجتمعات.
انهيار مفهوم الأسرة في الغرب:
في المجتمعات الغربية، أدى السعي نحو المساواة المطلقة بين الجنسين إلى تغييرات جذرية في بنية الأسرة، إذ أصبحت المرأة مطالبة بالعمل لساعات طويلة جنبًا إلى جنب مع الرجل لتأمين احتياجاتها المعيشية، مما أثر على دورها التقليدي في رعاية الأسرة. بالإضافة إلى ذلك، أصبحت تكاليف الزواج والطلاق عبئًا ماليًا يتقاسمه الزوجان، مما دفع العديد من الرجال إلى العزوف عن الزواج خوفًا من الخسائر المحتملة في حالة الطلاق، حيث تفرض القوانين الغربية على الرجل اقتسام ممتلكاته مع طليقته، وربما يدفع لها نفقات باهظة لسنوات. نتيجة لذلك، ارتفعت نسب الأبناء غير الشرعيين في كثير من الدول الغربية، مما يشير إلى تفكك عميق في بنية الأسرة.
الانقلاب على الفطرة: « قيمة » اجتماعية جديدة!
في المنظومة الغربية، تم تعزيز حقوق الأفراد في اختيار ميولهم الجنسية، مما أدى إلى اعتبار الشذوذ الجنسي حقًا محميًا بالقوانين، وأي معارضة لهذا التوجه تُعتبر جريمة يُعاقب عليها القانون. ولم يقتصر الأمر على البالغين، بل وصل إلى المدارس، حيث يتم تدريس الانقلاب على الفطرة على أنه مجرد « خيار طبيعي »، ويتم تقديم الأسرة التقليدية، التي تقوم على الزواج بين رجل وامرأة، كأحد أشكال الأسرة المتعددة وليس النموذج الأساسي.
إعادة تشكيل الهوية الجندرية:
ساهمت القوانين الحديثة في إذابة الفروقات بين الذكر والأنثى، مما أدى إلى ارتباك في الأدوار الاجتماعية، وأصبح الرجل غير مسؤول عن الأسرة، والمرأة صارت تُدفع دفعًا إلى ميادين العمل على حساب أمومتها، حتى باتت المجتمعات الغربية تعاني من أزمة هوية حادة في فهم دور الرجل والمرأة داخل الأسرة والمجتمع.
الفوضى الجنسية ونتائجها الكارثية:
أصبحت العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج ليست مجرد أمر شائع، بل تُدرَّس في المدارس على أنها « حرية شخصية »، ويتم تطبيع الأطفال معها منذ سن مبكرة، ولم يعد للآباء والأمهات الحق في الاعتراض. وقد أدى هذا إلى انتشار الفوضى الجنسية، وارتفاع معدلات الإجهاض، والأمراض الجنسية والنفسية، والتفكك الأسري.
أثر الغزو الإعلامي والفكري على المجتمعات الإسلامية:
نتيجة للغزو الإعلامي والفكري المستمر، بدأت المجتمعات الإسلامية تتأثر بالقيم والممارسات الغربية، وظهر ذلك في تبني بعض السلوكيات التي تتعارض مع القيم الإسلامية، وبدأ البعض يتطبع مع العلاقات غير الشرعية، وانتشر العزوف عن الزواج، وبدأ البعض يقلل من أهمية دور الأسرة. هذا التأثر أدى إلى بروز أزمات أخلاقية تدق ناقوس الخطر حول مستقبل القيم الإسلامية في هذه المجتمعات.
الإسلام يقدم منظومة أخلاقية وقيمية متكاملة:
في مقابل هذا الانهيار القيمي، يقدّم الإسلام منظومة أخلاقية متكاملة تحافظ على الأسرة، وتعزز من أدوار الرجل والمرأة، بحيث يكون الرجل مسؤولًا عن القوامة، والمرأة مسؤولة عن الأمومة ورعاية الأسرة. وبتجريمه للعلاقات غير الشرعية يرسّخ الإسلام قيم العفة والحياء، ويؤسس لأسرة قائمة على المودة والرحمة، حيث يكون الزواج هو الإطار الوحيد للعلاقة بين الجنسين. كما يؤكد الإسلام على أهمية التربية الأخلاقية للأطفال، من خلال غرس مبادئ العفة، بدءًا بالتفرقة في المضاجع، وتشجيعهم على التمسك بالقيم النبيلة التي تصون المجتمع من الانحلال.
شتان بين منظومة أخلاقية تُعلي من شأن الأسرة، وتكرّس أدوار الرجل والمرأة في تحقيق التوازن الاجتماعي، وبين منظومة أخرى تكرّس للفوضى والانحلال باسم الحرية. فالغرب اليوم يعاني من أزمات اجتماعية عميقة بسبب تفكيكه لمنظومة الأسرة، وفرضه قيمًا تخالف الفطرة. أما الإسلام، فيظل نموذجًا راسخًا يحفظ للإنسان كرامته، ويؤسس لمجتمع متماسك قائم على العفة والشهامة والحياء. ومع ذلك، فإن المجتمعات الإسلامية ليست بمنأى عن هذه التحديات، حيث بدأت تظهر فيها أزمات أخلاقية نتيجة البعد عن القيم الإسلامية والتطبع مع بعض الممارسات الغربية. وهذا يستدعي وقفة جادة لإعادة التأكيد على القيم الإسلامية الأصيلة، وحماية المجتمعات من التأثيرات السلبية للغزو الإعلامي والفكري المستمر.
Aucun commentaire