Home»Débats»لنخرج الهواتف من مؤسساتنا

لنخرج الهواتف من مؤسساتنا

0
Shares
PinterestGoogle+

ذ. محمود بودور

كان مرضيا جدا ما قامت به منظمة اليونسكو في 2023 حينما نشرت تقريرا صادما حول استخدام التكنولوجيا في الفصول الدراسية وأثارها السلبية على الصحة العقلية والنفسية والبدنية للمتعلمين .https://unesdoc.unesco.org/ark:/48223/pf0000386165_ara. ودعت فيه إلى الاستخدام المعتدل و المعقلن للوسائل التكنولوجية الحديثة في المدارس والمؤسسات التعليمية. ومنذ ذلك الوقت وحتى قبله، خرجت دول متقدمة كثيرة بقرارات جريئة لمنع استخدام الهواتف النقالة داخل أسوار المدارس بل قامت عدة دول بحجب مواقع وسن قوانين لحماية أطفالها من العواقب المدمرة لهذه الآلات والوسائط التكنولوجية، بل من الدول من عاقبت حتى الآباء على استخدام أبنائهم المفرط واعتبرت إدمان الهواتف مثل إدمان المخدرات.
لكن الموضة عندنا أن هو التوجه لاستعمال التكنولوجيا في مدارسنا بشكل غير محسوب النتائج بينما يرجع من ابتكرها إلى استعمال الأساليب التقليدية للتعليم والتعلم. مارك زوكربيرج – مخترع الفيسبوك – كان يرتاد أكاديمية لا تستخدم التكنولوجيا وهي أكاديمية فيليبس ايكستر phillips exeter academy ببوستن في منطقة سيليكون فالي silicon valley وما أدراك ما سيليكون فالي. هذه المنطقة من ولاية كاليفورنيا مشهورة عالميا بضمها لكبرى الشركات التكنولوجية في العالم بأسره.
كما قرأت عن مدارس في قلب لندن تمنع تلاميذها من استخدام الوسائط الرقمية داخل وخارج أسوارها. وهي مدارس مكلفة للآباء الذين أدركوا خطورة الشاشات على القدرات الفكرية والبدنية لأبنائهم وانخرطوا في تعليمهم بعيدا عن أخطبوط الوسائط التكنولوجية التي سلبت عقول الأطفال الصغار والكبار. فأصبحوا مثل الأحياء الأموات zombie وفشت فيهم السمنة والبلادة والسفاهة والكسل.
يمنع التدخين واستخدام المخدرات في مدارسنا ولا تمنع الهواتف. الإدمان الذي تسببه الهواتف هو بنفس خطورة الإدمان الذي تسببه السجائر والمخدرات. فهرمون الدوبامين الذي تفرزه السجائر والمخدرات هو نفسه المادة التي تفرزها الهواتف الذكية في الجسم والدماغ. غير أننا نحارب السجائر ولا نرى مانعا في السماح لطفل بعمر الثالثة من عمره من المكوث مع هاتف أحد والديه النهار كله أو جزءا كبيرا من الليل من أجل التخلص من صراخه وتعبه! ولا مانع لابننا أن يصطحب هاتفه إلى مؤسسته ونحن نعلم علم اليقين أن ذلك يؤذيه ويمنعه من التركيز داخل الفصل!
لا زلت أتذكر تلميذا جاء متأخرا إلى مكتب الغياب الذي كنت مسؤولا عنه في إحدى المؤسسات التي اشتغلت بها. فلما سألته عن السبب، أجابني بكل جرأة أنه لم ينم حتى الساعة السادسة صباحا قاضيا الليل كله في مواقع التواصل. واعترف أنه حتى إذا أراد النوم فإنه لا يستطيع إلا بعد ساعات طوال من مغالبته بسبب التأثيرات الجانبية للهواتف الذكية و إدمان مواقع التواصل الاجتماعي.
جميع الأبحاث تؤكد خطورة الأشعة الزرقاء على أعين الأطفال خاصة في طور النمو وحتى على أعين الكبار ولا شك في ذلك. لكن الأطفال لا يملكون القدرة على التوقف إذا لم يتدخل الكبار. فنحن نخسر المعركة في بيوتنا مع أولادنا فهل يجب أن نخسرها في مدارسنا أيضا؟
أصبحت المؤسسات في بلدنا تتسابق وتتفاخر في تجهيزها بالوسائل التكنولوجية الحديثة. صحيح أن هذه الوسائل تكون فعالة ومعينة ومسهلة لعملية التعلم خاصة في المواد العلمية. لكنها لا يمكن أن تصبح بديلا عن التجارب التي يلمس فيها المتعلم الأشياء بيده ويرى نتائج تجاربه التي يقودها أستاذ متمرس داخل مختبر مؤسسته محاطا بتلاميذه. وقد يلجأ كثير من أساتذة العلوم التجريبية إلى عرض التجارب على المسلاط الضوئي ومشاهدتها مع التلاميذ ربحا للوقت والجهد، لكن هذه الطريقة ليست بديلا تربويا فعالا للتجارب المختبرية الملموسة التي ينخرط فيها المتعلم بكل حواسه: involve me I learn. وحتى الدول التي وفرت اللوحات الالكترونية و الايبادات Ipads، بديلا عن الكتب الورقية بدأت تراجع مواقفها وسياساتها بسبب التأثيرات الجانبية لهذه اللوحات على المتعلمين الذين أصبحوا لا يتقنون حتى الكتابة بأيديهم بسبب الاكتفاء بالنقر على الشاشات ولوحات المفاتيح حتى في اجتياز بعض الامتحانات الاشهادية.
أما الذكاء الاصطناعي AI فقد أصبح البلاء الأزرق الذي ابتلي به جيل زد generation z – المزدادين بين 1997 و 2012 وجيل ألفا الذين يلونهم. فقد سهلت تطبيقاته في الهواتف والحواسيب الكثير من الأمور، حتى عاد بالإمكان كتابة التقارير والأبحاث والخطب بنقرة زر واحدة وفي لمح البصر. بل ويمكنه أن يحل مسائل رياضية وتمارين معقدة بمجرد أخذ صور لها من هاتفك النقال. لكن الطامة الكبرى حينما استخدمه التلاميذ في الغش في الامتحانات والاختبارات والواجبات المنزلية واستخدمه الباحثون في سرقات أدبية على مستويات أكاديمية. فلم تعد التكنولوجيا معينة للتعلم بل معرقلة له بسبب الاستخدام البليد والاعتماد الأعمى عليها. بل أصبح يلجأ إلى استخدام الذكاء الاصطناعي في تحضير الدروس و الاختبارات في التعليم. فماذا سيعرف الذكاء الاصطناعي يا ترى عن الاختلافات الموجودة بين المتعلمين؟ وماذا سيعرف عن مشاعرهم وأحاسيسهم؟ وهل سيحس بمشاكلهم واهتماماتهم واحتياجاتهم المختلفة والمتنوعة؟ وماذا سيعرف عن واقع التعليم في بلدنا ومستوى التلاميذ وخلفياتهم؟ وماهي انعكاسات الاعتماد الكلي عليه في حل المسائل والواجبات المنزلية ؟ وماهي تداعيات استخدامه في الغش في الاختبارات و الامتحانات الاشهادية؟ وهل سيكون الذكاء الاصطناعي بديلا تربويا فعالا للأستاذ داخل الفصل كما يدعو البعض؟
أحسن وسيلة تعليمية داخل الفصل هي أستاذ ماهر يجمع بين مهارات صلبة hard skills من قدرات تقنية ومعرفية يمكن قياسها وتقييمها في مجال تخصصه، ومهارات ناعمة soft skills من قدرات التعامل والتواصل والقيادة في فصل يكون فيه مسهلا ومنشطا لعملية تعليمية تقحم المتعلم في عملية التعلم وتفتح له آفاقا للتفكير النقدي والتطوير الذاتي للمعارف والمهارات مع استخدام معقلن للوسائل التكنولوجية وبدون هواتف نقالة في جيوب المتعلمين. فوجود هذه الأجهزة ولو كانت على الوضع الصامت تعرقل التركيز وتشتت الانتباه. فمجرد وصول تنبيه رسالة في هاتف التلميذ ولو في جيبه تكسر تركيزه ولن يستطيع استرجاعه إلا بعد مرور 20 دقيقة على الأقل كما قرأت في احدى المقالات. فما بالك إذا كان التلميذ يلعب في هاتفه أو يتواصل مع اقرانه على الهواء مباشرة من داخل الفصل. والأمثلة على ذلك تضج بها مواقع التواصل، حيث أصبح التلاميذ يتباهون ويتفننون في تصوير اللقطات المضحكة والساخرة داخل الفصول وأثناء أداء الأساتذة مهمتهم النبيلة التي أصبحت محط سخرية الداني والقاصي. بل وقام بعض الكسالى والبلداء بتصوير مشاهد إفطار داخل الفصل بمائدة صغيرة وإبريق شاي والأستاذ يلقي درسه.
لا شك أن كل هذا يدفع بنا إلى إعادة النظر في هذا الغزو التكنولوجي الكاسح لعقول شبابنا. فأصبح واجبا على وزارة التعليم أن تسن قوانين وتشريعات أكثر صرامة من تلك المذكرة رقم 1 التي صدرت بتاريخ 3 يناير من عام 2008 والتي تمنع استخدام الهواتف النقالة داخل المؤسسات التعليمية من طرف الأطر والتلاميذ على حد سواء. فمنذ ذلك الوقت، عرفت الوسائل التكنولوجية نموا مطردا على جميع المستويات وتطورت بشكل كبير أصبح لازما معها أن نطور من القوانين والتشريعات لضبطها واستخدامها في مسارها الصحيح وبشكل يخدم المنظومة التعليمية ولا يهدمها. كما أصبح لازما تطوير وسائل محاربة ظاهرة الغش بوسائل تكنولوجية أكثر ذكاء ونجاعة لتعود للامتحانات مصداقيتها وشرعيتها.
صحيح أننا لم نصل بعد في توسيع تكنولوجيا المعلومات والتواصل إلى مستوى الدول المتطورة التي ذكرت آنفا. لكنني أود أن أشير إلى أنه إذا أردنا أن ننجح هذا الورش، فإنه لابد أن نركز على تأهيل الموارد البشرية بتكوين قبلي متين وتكوين مهني مستمر. فما فائدة توفير حواسيب وقاعات متعددة الوسائط ولوحات إلكترونية بدون تأهيل الأساتذة في استخدام هذه التكنولوجيا كل في مجال تخصصه؟
لا بد في الوقت نفسه من وضع حدود واضحة لاستخدام هذه التكنولوجيات. فلا بأس أن نجهز القاعات بوسائل الإيضاح الالكترونية، ولا بأس من استغلال الذكاء الاصطناعي من أجل الوصول للمعلومة، ولا بأس من تعويض الكتب الدراسية التي قصمت أظهر أبنائنا بلوحات رقمية. لكن لا يمكننا أن نسمح للهواتف النقالة أن تأسر عقول أبنائنا وتجتاح مدارسنا ومؤسساتنا وتضيع أخلاق شبابنا. ولا ينبغي أن نسمح لهذه التكنولوجيا أن تدمر عقول وأجسام أبنائنا خاصة الصغار منهم. الشيء الذي سيساهم في تحسين أداء التلاميذ وتوفير الجو التربوي الملائم الذي أصبح في خبر كان مع التراخي في منع الهواتف بالمؤسسات التعليمية.
ذ. محمود بودور 21 يناير 2025

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *