السيادة الوطنية متعالية على انحراف » النضال » الحقوقي
عبد السلام المساوي
كل من يعارض حقوق الإنسان الأساسية، أو يحاربها، بأي شكل من الأشكال، يضع نفسه، لا محالة، ضمن خانة التأخر بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.
وليس وضع من ينطلق من مبدأ تسييس قضايا حقوق الإنسان، واعتبارها مطية لتحقيق أهداف لا يمكن تحقيقها بواسطة العمل السياسي الطبيعي والعادي، أفضل حالًا من منظور الانحراف عن خط التقدم والرقي الذي ينبغي أن يظل في خلفية كل عمل حقوقي يراعي الفلسفة الأساسية التي تستند إليه منظومة حقوق الإنسان.
هناك انحراف خطير آخر برز إلى السطح، بشكل أكثر وضوحا، في السنوات الأخيرة، وهو الذي ينطلق من اعتبار كونية حقوق الإنسان مطية للاستقواء بالخارج. وقد أدى إلى حروب وفتن اجتماعية وسياسية مدمرة في المنطقة العربية آثارها ومضاعفاتها لم تعد خافية عن عين كل مراقب موضوعي لمجرى الأحداث.
والخوف، كل الخوف، أن ينحرف البعض بنضال حقوقي مشروع ومطلوب إلى مجرد استحداث وضعية « المحميين » الجدد، لهذه الدولة أو تلك، باسم حقوق الإنسان.
إن إحداث أي ثغرة في جدار السيادة الوطنية، على هذا المستوى سيؤدي، بالتبعية، إلى نوع من الاستقواء بالأجنبي، في مواجهة الوطن بكل ما يمثله من قيم ومعاني.
وهذا ما كان ديدن المحميين القدامى في مغرب القرن التاسع عشر على وجه التحديد.
فهل سيتم استخلاص العبر من هذا التاريخ أم أن ماكينة الاستقواء بالأجنبي قد انطلقت وهي تغذ السير نحو الهاوية، لا قدر الله؟
لا تنفصل السمعة عن الواقع إلا على قاعدة الانحياز المغرض. فالواقع هو أساس السمعة في مختلف المجالات. وكلما عكست السمعة الواقع الملموس في مجال من المجالات، وكانت أمينة في ذلك، كلما فتح باب الإصلاح والتطور في المجتمع والدولة على مصراعيه، وتم اجتناب مأزق الدخول في الطريق المسدود. لذلك فالحرص كله ينبغي أن ينصب على الواقع ليصبح رافعة حقيقية للسمعة. فهو لا يؤكدها في بعدها الإيجابي فحسب، وإنما هو كفيل أيضًا بتبيان تهافت كل الادعاءات التي تروم تشويه السمعة، انطلاقًا من هذه الخلفية أو تلك، أو خدمة لهذه الأجندة أو تلك.
عندما يعترف المغرب بحقوق الإنسان، كما هو معترف بها دوليًا، فهذا يترتب عليه، بالضرورة، التزام محدد من قبل الدولة ومؤسساتها وهو أن لا تكون سياساتها وممارساتها مناهضة لحقوق الإنسان. وليس أن تتماهى، في تعاملها، مع مختلف القضايا مع مواقف أو ممارسات هذه الدولة أو المؤسسة أو تلك حتى ولو كانت تقدم نفسها حامية لحقوق الإنسان ماديًا أو رمزيًا. كما لا يعني ذلك التنازل عن السيادة الوطنية لهذه الجهة أو تلك وخاصة منها الجهات التي تنصب نفسها وصية على البلدان الأخرى، بهذه الذريعة أو تلك. علاوة على أن كونية حقوق الإنسان لا تعني، في كل مستوياتها، تأويلًا واحدًا لكل حق منها، وفي كل مكان. إذ يكتسي التاريخ الملموس أهمية حيوية في بلورة عناصر التأويل. والتاريخ هنا هو بؤرة الثقافة السياسية للأمة والشعب. وهو الذي يمكن التأويل من قالبه الخاص الذي به يقاس الممكن والمستحيل، كما يحدد به المقبول والمرفوض، وذلك في سياق، مادي ومعنوي، لا ينبغي إخراجه من دائرة الحسبان.
ولا جدال في أن السياق يعني، من بين ما يعنيه، كل الظروف المحيطة بكل قضية من القضايا التي يتم النظر إليها، من زاوية حقوق الإنسان، بالذات. إذ ليست ذات بعد واحد أو اتجاه واحد وأوحد. ففي حالات، بعينها، يتم النظر إلى القضية من زاوية الحق، بالنسبة لهذا، بينما تشكل تنكرًا للحق أو إعدامًا له، بالنسبة لذاك. ولا مناص من اللجوء هنا إلى قاعدة أخرى، أقوى وأشمل، للبت في التعارض بين البعدين لتحقيق التوازن المطلوب وعدم الوقوف في دوائر الإجحاف وعدم الإنصاف. وليس هناك من قاعدة تفي بهذا الغرض غير القاعدة القانونية، وما يترتب عليها من مساطر وجزاءات متى تم ملاحظة التجاوز الإرادي أو غير الإرادي لأنه في المحصلة يلحق الضرر، أول ما يلحقه، بحقوق الإنسان ما لم يتم تفعيل تلك القاعدة لإعادة الأمور إلى نصابها.
إن حرية التعبير، على سبيل المثال، تظل حقاً أساسيًا من حقوق الإنسان التي يكفلها القانون، ويعلي من شأنها الدستور، لكنها تتوقف عن كونها حقًا، عندما تنزلق ممارستها إلى خانة التشهير والقذف في أعراض الناس وإطلاق الاتهامات في كل الاتجاهات، دون دلائل دامغة تدعمها عند المساءلة القانونية، حماية لحقوق من يشعرون بالضرر من ممارسة ما يعتبره البعض حقًا وهو قد تجاوز نطاقه الحقيقي. ولا يختلف في هذا كون المتضرر شخصًا بعينه أو مؤسسةً من المؤسسات المختلفة بما في ذلك مؤسسات هذه الدولة أو تلك.
كما أن اختلاق الأخبار الزائفة ونشرها، بأي شكل من الأشكال، لا يدخل في إطار حقوق الإنسان، وإنما هو مناقض لها بكل المقاييس وينبغي تفعيل الترسانة القانونية المعمول بها في مثل هذه الحالات أو سن أخرى لوضع حد لهذه الممارسة الخطيرة على حرية التعبير، رغم كون من يقدمون عليها لا يكفون عن الإعلان بأن ما يقومون به لا يخرج عن نطاق ممارسة حق من حقوقهم الأساسية وهو حق التعبير الحر.
والملاحظ أن بعض منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان، المحلية والإقليمية والدولية، التي ليست، من حيث هيكلتها وسياساتها المعلنة، منظمات حكومية، تتصرف، أحيانًا، بطريقة تطرح السؤال الجوهري حول مدى التزامها بالتحرك في ميدان حقوق الإنسان. إذ غالبًا ما تتجاوزه إلى مستوى التدخل في ميادين من صميم السياسة والاستراتيجية. وبذلك تنصب نفسها طرفًا في التفاعلات الاجتماعية والسياسية الداخلية والإقليمية والدولية لبلدان بعينها، قصد ترجيح كفة طرف على كفة طرف آخر، ولتحقيق مصالح ليس مؤكدا، دائما، أنها تندرج ضمن ما ترمي إليه فلسفة حقوق الإنسان.
صحيح أن الشعار المرفوع دائما هو الدفاع عن هذه الحقوق، غير أن كل الوقائع الملموسة ومجمل سلوكها، في عدد من الحالات، يكشف أن المسألة أبعد من الدفاع عن حقوق الإنسان، وأنها، ببساطة، جزء لا يتجزأ من سياسة واستراتيجية مرسومة داخل دوائر لا علاقة لها بحقوق الإنسان، إلا من زاوية كون هذه الأخيرة مطية؛ الغاية منها: توفير الأجواء الملائمة لقرارات سياسية واستراتيجية، تتراوح بين الضغط لتحقيق أهداف سياسية ما، وانتزاع تنازلات من الطرف الذي يقع عليه الضغط، بمختلف الوسائل، كالعمل على تغيير سلوك نظام سياسي بعينه تجاه بعض القوى الإقليمية أو العظمى، وبين الإطاحة به، كما دلت على ذلك أمثلة كثيرة جرت في عالمنا المعاصر، وما تزال تجري أمام أعيننا في عدد من البلدان ( العراق، ليبيا، سوريا، الخ)
ولا عجب في أن تغض بعض هذه المنظمات الحقوقية الطرف عن الذي يجري على أرض الواقع، كليًا أو جزئيًا، ما دام ذلك يصب في اتجاه توفير مناخ سياسي عام أو سمعة تسمح بتبرير اتخاذ أو تنفيذ القرارات التي تمت بلورتها على قاعدة عناصر سياسية أو اقتصادية أو استراتيجية أخرى، لا علاقة لها، أصلًا، بحقوق الإنسان، وإنما تم توسل هذه الأخيرة للتضليل حول الأسباب والعوامل الحقيقية لاتخاذ تلك القرارات أو تنفيذها.
وهكذا تنحو تلك المنظمات إلى تجاهل كل ما أنجزته أو تنجزه البلدان المستهدفة في مجال حقوق الإنسان، مبرزة ومؤكدة، على الخصوص، على ما تراه نقائص في تجارب تلك البلدان، الأمر الذي يتعارض مع النقد الموضوعي للحالة العامة في تلك البلدان، لأن تبخيس المنجزات أو التنكر لها يدخل في سياق التحامل. وكما ليس يخفى، فإن هذا الأسلوب يتنافى مع جوهر فلسفة حقوق الإنسان التي لا يمكن لها مغادرة ما هو نسبي لاعتماد المطلق الزائف، في نهاية المطاف.
إن المغرب قد عانى الأمرين، هو كذلك، من سلوك بعض المنظمات الحقوقية المحلية والدولية التي تتحرك من منطلقات من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إدراجها ضمن حقوق الإنسان والدفاع عنها بشكل حصري ومطلق، بل تندرج في إطار سياسي استراتيجي لتحقيق أهداف من هذا الصنف بالذات .
وهذا ما يفسر أن بعضًا من تلك المنظمات تجد نفسها عاجزة عن تقديم أجوبة مقنعة على أسئلة المغرب المرتبطة بالوقائع الملموسة، وليس القائمة على استنتاجات أو اعتماد أقوال بعض الأشخاص الذين لا يخفون منطلقاتهم السياسية في محاكمة سلوك الدولة ومؤسساتها في مختلف المجالات.
Aucun commentaire