الاقتراض من أجل اللغة الفرنسية: أهو ضرورة شرعية أم ضرورة استراتيجية؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي
الاقتراض من أجل اللغة الفرنسية: أهو ضرورة شرعية أم ضرورة استراتيجية؟
صدر بتاريخ 18 مارس 2024 بإحدى الجرائد الإلكترونية مقال تحت عنوان « قرض فرنسي يدعم إصلاح التعليم بالمغرب »، مفاده أن المغرب اقترض من فرنسا مبلغا ماليا قدره 134,7 مليون يورو بهدف « تعزيز جودة التعلم من خلال تحسين تدريس اللغة الفرنسية والتدريس بها في المدارس الثانوية الإعدادية »، وتجنبا لحساسية المغاربة اتجاه اللغة الفرنسية، -حسب اعتقادي-مال صاحب المقال إلى اعتماد لغة « ديبلوماسية » في تقديم سياق وبعض حيثيات القرض التي أقتبس منها ما يلي:
- بتوقيع وزارة الاقتصاد والمالية المغربية والوكالة الفرنسية للتنمية على برنامج جديد يركز على « جودة التعليم ومكافحة الهدر المدرسي… يواصل التعاون الثنائي المغربي-الفرنسي تعزيز أسسه وركائزه في مختلف المجالات، إثر انقشاع « غيوم الأزمة الأخيرة »؛ ما دفع نحو تعزيز وتقوية شراكة الرباط وباريس في مجال التعليم، على الخصوص.
- « يندرج -القرض-ضمن الأولويات المشتركة (للبلدين) المتمثلة في قضايا التعليم والرأسمال البشري »
- أكدت الأطراف التزامها المشترك بمواصلة العمل الطموح لدعم الإصلاح وفقا لهذا البرنامج…
واختتمه بالإشارة إلى أن الوكالة الفرنسية للتنمية تعد مؤسسة عمومية تابعة لهياكل وزارة الشؤون الخارجية الفرنسية، تُعنى بتنفيذ سياسة فرنسا في مجالَي « التنمية المستدامة والتضامن الدولي ».
وبما أن هذا القرض يعتبر قرضا ربويا بالمفهوم الشرعي، وبما أن دين الدولة هو الإسلام، فاللجوء للاقتراض بالربا مقرون بشرط الضرورة، التي تستلزم التحقق من وجود خطر حقيقي على إحدى الضروريات الخمس، حتى تتم الاستفادة برخصة الأخذ بالأحكام الاستثنائية لدفع الخطر، عملاً بالقاعدة الفقهية: « الضرورات تبيح المحظورات ». والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما مدى حصول ضرورة اللجوء لهذا القرض؟ وما هي تجلياتها؟ الإجابة تكمن بلا شك في استشارة أهل الاختصاص من العلماء. وبما أن هذه الاستشارة لم تقع، سأفترض أن الضرورة كانت تكون ممكنة الحصول، لو كان الأمر يتعلق بمحاربة كل ما له علاقة بالمخدرات المادية والمعنوية، وبنشر ثقافة الميوعة، التي تمثل تهديدا حقيقيا للعقل باعتباره من الكليات الخمس، أو لتطوير البحث العلمي الذي يسمح بضمان الأمن الغذائي، أو الأمن العسكري…، أو العمل على تبويء اللغة العربية المكانة التي تستحقها، على اعتبار أنها لغة القرآن من جهة، وأنها اللغة الوطنية الأولى التي يُفترض أن تأخذ موقع الصدارة على جميع المستويات من جهة ثانية. أما وأن يتم الاقتراض من مستعمِر الأمس، ومستغِل اليوم، لدعم لغته التي لم تَعُد لها قيمة تُذكر في المجالات العلمية الحيوية، فهذا لا يمكن بحال من الأحوال استساغته كضرورة شرعية تستوجب إعمال قاعدة « الضرورات تبيح المحظورات »، وإنما يدخل ببساطة في خانة الربا الذي لا يَجلُب لأصحابه سوى المقت والمحق، مصداقا لقوله تعالى في سورة البقرة ﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾ ومصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم « الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ، فَإِنَّ عَاقِبَتَهُ تَصِيرُ إِلَى قُلٍّ ».
لنترك الشرع جانبا، ولننظر إلى الموضوع من الزاوية البراغماتية، أو لنقل الاستراتيجية، لعلنا نجد ما يبرر هذا النوع من القروض. ففي الوقت الذي كان من المنتظر أن تحُل الإنجليزية -بعد صدور المذكرة رقم 23-030 في شأن تعميم تدريسها في الإعدادي-محل الفرنسية تدريجيا، نظرا للأهمية التي تكتسيها على المستوى العالمي في جل المجالات الحياتية، « واعتبارا لوضعها في المجتمع وأدوارها الوظيفية، وكذا للآفاق المستقبلية التي تفتحها للناشئة في مجالات المعرفة والعلم والتكنولوجيا والتواصل والانفتاح الثقافي والحضاري » على حد تعبير نفس المذكرة، تأتي هذه الانتكاسة -التي سبقتها انتكاسات كثيرة، على رأسها انتكاسة التراجع عن التعريب، وانتكاسة تعميم الفرنسية على السلك الابتدائي- بمبرر أن الصفقة جاءت على إثر انقشاع « غيوم الأزمة الأخيرة »، فأي انقشاع هذا؟ وما هي مؤشراته؟ أيتعلق الأمر بتلك الإشارة التي يراد بها ضرب عصفورين بحجر واحد، من خلال نشر السفارة الفرنسية صورا يظهر فيها وزير فلاحتها ونظيره المغربي وهما يلتقطان الصور أمام خريطة المغرب كاملة غير مجتزئة من الصحراء؟ بحيث العصفور الأول عبارة عن نوع من التَقرُّب إلى المغرب، بينما العصفور الثاني يتمثل في تهديد الجزائر بإمكانية الاعتراف الصريح بمغربية الصحراء، أم يتعلق بإشادة المدير العام للشرطة الوطنية الفرنسية، بمستوى التعاون الثنائي المتميز الذي بلغته العلاقات بين المغرب وفرنسا في المجال الأمني، على إثر اعتقال زعيم المافيا « يودا مارسيليا »؟ أم بإشادة نائب المتحدث الرسمي باسم خارجيتها بإدخال المغرب مساعدات غذائية برا إلى فلسطين؟ علما أنه لو كانت الإشادة صادقة، لكانت فرنسا أقدر على إيصال المساعدات إلى غزة من أي الطرق شاءت.
يبدو لي أن هذه المبررات الواهية وغيرها كثير، تشبه إلى حد بعيد مبررات العلمانيين في تطاولهم على مقام أمير المؤمنين، بإصرارهم على المطالبة بتجاوز نصوص قطعية في صياغة مدونة الأسرة المرتقبة، محاولين إنزال مبرراتهم هذه، منزلة الضرورة الشرعية، ضدا على تصريحه القائل بأنه « لا يحل حراما ولا يحرم حلالا »، وإلا فما معنى تنصيص خطاب جلالة الملك بمناسبة الذكرى التاسعة والستين لـ »ثورة الملك والشعب » على أن استراتيجية التعامل مع دول العالم تمر عبر ملف الصحراء المغربية، كما هو مبين في الفقرتين المحوريتين التاليتين:
- « أوجه رسالة واضحة للجميع : إن ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط، الذي يقيس به صدق الصداقات، ونجاعة الشراكات ».
- « ننتظر من بعض الدول، من شركاء المغرب التقليديين والجدد، التي تتبنى مواقف غير واضحة، بخصوص مغربية الصحراء، أن توضح مواقفها، وتراجع مضمونها بشكل لا يقبل التأويل »
سوى اعتبار انقشاع « غيوم الأزمة الأخيرة » « ضرورة استراتيجية » لتبرير عقد صفقةٍ مآلها الأساسي تعميق الهيمنة الفرنسية على مختلف مجالاتنا الحياتية، من خلال مزيد من التمكين لسلاح اللغة الفرنسية، التي غَنِمت جل المسؤولين المغاربة، بحسب تعبير عبد العالي الودغيري في تعقيبه على كاتب ياسين، معتبرا أن اللغة الفرنسية هي التي غنمته عكس ما صرح به هذا الأخير.
ختاما يمكن القول بأن هذا الاقتراض بالهدف المُعلن عليه، لا يمكن بأي حال من الأحوال إدراجه لا في خانة الضرورة الشرعية، ولا في خانة الضرورة الاستراتيجية، خاصة وأن استهداف الشريعة الإسلامية واللغة الوطنية يزداد حدة مع مرور الوقت، وأن موقف فرنسا الرمادي من الصحراء المغربية لا زال قائما، وإنما تشتم منه رائحة التواطؤ بين اللوبي المغربي ذو التوجه العلماني المفرنس، وبين المسؤولين الفرنسيين. وما تزامن الصفقة مع اليوم العالمي للفرنسية – 20 مارس- سوى أحد المؤشرات على هذا التواطؤ الذي يدل مرة أخرى على المضي قدما في الاستخفاف بمقدسات وثوابت الأمة المغربية، إن لم أقل في محاربتها.
Aucun commentaire