لا يؤلم الشجرة الفأس التي تقطعها إنما يؤلمها العود المقطوع منها الذي يحملها
لا يؤلم الشجرة الفأس التي تقطعها إنما يؤلمها العود المقطوع منها الذي يحملها
محمد شركي
من نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادقة إخبار أمته المسلمة بزمن يأتي عليها ، وهي في أقصى درجة الذل والهوان بين الأمم ، وذلك في حديثه المشهور : « يوشك الأمم أن تداعى عليكم ، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها ، فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير ، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم ، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن ، فقال قائل : يا رسول الله وما الوهن ؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت » .
والغريب في هذا الحديث النبوي الشريف ـ حتى لا نقول المفارقة تنزيها له ـ أن تذل وتهون أمة الإسلام، وهي كثرة كاثرة ، علما بأنها عزّت وهي قلة قليلة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومما يذل هذه الأمة على كثرتها كما جاء في هذا الحديث، حبها و تعلقها الكبير بالدنيا، والإقبال عليها بنهم وشره ، وكراهية الموت ،وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الإقبال وهنا أي ضعفا .ولا يستقيم منطقا أن يكون الضعف مع كثرة الأصل فيها القوة ، ومن أجل إقناع رسول الله صلى الله عليه بإمكان حصول هذا الذي لا يستقيم منطقا في الظاهر، جاء بتشبيه يرفع الغرابة عن الأذهان حيث شبه الكثرة التي يلابسها الضعف بالغثاء ، وهو ما يعلو السيول من رغوة ، ومن كل ما خف من خشاش الأرض وغيره . ومعلوم أن الغثاء يكون حسب حجم السيول التي تكون زاخرة ، ومع ذلك يكون غثاؤها أهون ما فيها على كثرته . ولا يستطيع أحد بعد هذا التشبيه وهو غاية في التصوير أن يستغرب وجود ضعف في كثرة إلا أن يكون مكابرا .
ومما يثير الانتباه في هذا الحديث الشريف أيضا سؤال السائل : » ومن قلة نحن يومئذ ؟ » ، ولا شك أن الذي جعله يسأل هذا السؤال هو التشبيه الأول في الحديث الشريف الذي شبه الأمة بقصعة طعام يجتمع حولها الأكلة ، وهذا ما جعل السائل يخطر بباله أو يستحضر قلة الأمة ، لأن قصعة الطعام مهما امتلأت فإن تداعي الأكلة عليها يأتي عليها ويفرغها . ولا شك أن السائل ذهل لما أخبره رسول الله صلى الله عليه بكثرة الأمة يومئذ ، لكن غرابته سرعان ما زالت عندما شبه عليه الصلاة والسلام الأمة يومئذ بغثاء السيل الذي لا نفع يرجى منه كما جاء في قول الله تعالى : ((فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض )) .
ومع تحول الأمة إلى غثاء بسبب ما يصيبها من وهن ، تنزع مهابتها من قلوب أعدائها ، فيستخفون بها ، ويمعنون في إهانتها ، وإذلالها تماما كما يستخف بالغثاء الذي تتقاذفه السيول . وأما قلوب الأمة، فيستقر فيها حب الدنيا والتعلق بها وكراهية الموت، وقد جاء التعبير عن هذا الحب بالوهن بليغا بل غاية في البلاغة ، ذلك أن الحب مهما كانت طبيعته يرافقه بالضرورة وهن المحب وضعفه واستكانته للمحبوب ، وصدق من قال :
أهنت نفسي للحب بعد عزتها وأي ذي عزة للحب لا يهن
ومعلوم أن المهابة لا تنزع من قلوب أعداء الأمة إلا بعد تأكدهم من حلول الوهن بقلوب أهلها ، لهذا يزينون لها الدنيا لتزداد تعلقا وشغفا بها ، وعلى قدر هذا التعلق والشغف، يكون حجم الوهن ، وتكون الغثائية .
ومعلوم أيضا أن الذي يفسد حب الدنيا هو الموت والزوال ، لهذا يصير مكروها في القلوب ، وعلى قدر حجم هذا الحب تزداد كراهية الموت ، وبزيادتها يزداد حجم الذل والهوان ، ذلك أن الوجل من الموت يجعل الواجل منه متشبثا بالحياة أيما تشبث ،على ما يكون فيها من خسة وذل وهوان ، ويصير همه هو التعلق بها ، وعليه يصدق قول الشاعر الحكيم :
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميّت إيلام
فكما ينعدم إحساس الميّت بألم الجرح ، ينعدم إحساس من يهون بألم الهوان.
وإذا ما عرضنا حال أمتنا المسلمة عربها وعجمها اليوم على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا يسعنا إلا الجزم بأننا نحن من عناهم وقصدهم ، ذلك أننا اليوم كثرة كاثرة قد تجاوزنا المليار والنصف عددا ، وعلمت الأمم العدوة ما سكن قلوبنا من وهن ، فنزعت من قلوبها المهابة منا، وأمعنت في إذلالنا ذلا ليس بعده ذل ، وصرنا مسخرة عندهم ، يتندرون بنا في أحاديثهم ، ونحن متشبثون بالحياة، ومقبلون عليها بشره ونهم ، لا نبالي بإذلال يلحقنا منها .
ولعل ما صدمنا ونحن غارقون في الوهن، وما هو إلا أوحال الذل والهوان ، وما كشف النقاب عن غثائيتنا ، هو ما حدث بعد السابع من أكتوبر، لما هبت قلة من أبناء أرض الإسراء والمعراج لتدفع عنا هواننا ، وقد قلبت معادلتنا الخاسرة المراهنة على حب الدنيا وكراهية الموت ، فأقبلت على الموت كإقبالنا على الحياة لعلها تحررنا من وهننا الذي ران علينا، لكننا مع الأسف لم نفق من سكرة حب الدنيا بل ازداد تعلقنا بها ، وازداد وجلنا من الموت الذي يستطيبه إخواننا في غزة بأرض فلسطين . ومن فرط غثائيتنا صرنا نعجب منهم كيف يودعون شهداءهم بالمئات يوميا ، وهم يسألون الله عز وجل أن يتقبلهم ويرضاهم منهم ، وذلك بصبر وجلد كبيرين، وقد أذهلوا بذلك حتى أعداءنا الذين ألفوا منا التعلق بالوهن والرضا به ، ولكنهم فاجأهم أنه بقيت فينا قلة تركب الموت ببسالة منقطعة النظير ، ومذكرة بسلف صالح منه تعلمت البسالة .
ولقد صرنا نفكر في جيوشنا ، ونتساءل باستغراب ما الذي أقعدها في
ثكناتها عن الحذو حذو إخواننا الذين أحبوا الموت ، وكرهوا حياة المهانة في غزة العز ، وما أقعدها إلا الذي أقعدنا كشعوب ، علما بأن من طبيعة جيوشنا أن تكون محبة للموت كارهة للحياة ،إلا أنها مع شديد الأسف صارت أشد تعلقا بالحياة منا ، وعزّ فيها من يقف في وجوه ساستنا الذين استخفوا بنا أيما استخفاف ، والذين بدورهم استخف بهم أعداؤنا تماما كما استخفوا بنا ، وصاروا خدما عندهم يأتمرون بأوامرهم ، ويصدرونها إلى جيوشهم القابعة في ثكناتها المنشغلة بلذة الوهن على ما فيها من ذل وهوان .
ولقد ضرب طلاب الموت الأبطال في غزة أمثالا رائعة في البسالة والصمود أمام أعدائنا الذين يرعبون جيوشنا الواهنة بأسلحة دمارهم التي قيدتهم بقيود المهانة والذلة . ولولا غثائيتنا ، واستكانة جيوشنا ، وخيانة ساستنا الفاضحة لما تجاسر علينا أعداؤنا .
ولقد أصاب الحقيقة المنطبقة علينا من قال : » لا يؤلم الشجرة الفأس التي تقطعها إنما يؤلمها العود المقطوع منها الذي يحملها « .
Aucun commentaire