التاريخ ومرجعيات المسؤولين مدخل للتعامل مع تصريحاتهم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي
التاريخ ومرجعيات المسؤولين مدخل للتعامل مع تصريحاتهم
من الصعب وربما من المستحيل استيعاب فحوى تصريحات القادة والزعماء، دون استحضار السياق الذي ترد فيه، ودون التنبؤ بالأهداف المتوخاة منها. وإذا كانت الأهداف والنيات مسألة غير قابلة للملاحظة المباشرة، فإنها تتمظهر في ممارسات تطفو على مستوى الواقع، في إطار سياقات معينة، بما يتيح إمكانية التنبؤ بعدد منها، خاصة إذا كانت مُعزَّزة بمعرفة دقيقة لمرجعياتهم وتاريخ أسلافهم.
سبب هذا الكلام هو تدني، إن لم أقل انعدام ثقة الشعوب العربية والإسلامية بالطبقة السياسية في مختلف مستوياتها، حتى أصبح هذا التدني أو الانعدام عملة رائجة، في علاقة هذه الشعوب بمسؤوليها، بل حتى بمسؤولي البلدان الأجنبية والغربية منها على الخصوص. ويبدو أن السبب الرئيسي في ذلك هو عدم ثبات هؤلاء الساسة على مواقفهم، من خلال تغيير تصريحاتهم كلما تغيرت مواقعهم، وفي بعض الحالات يغيرونها كلما تغيرت المعطيات والسياقات، حتى وإن لم تتبدل مواقعهم، وفيما يلي بعض الحالات على سبيل المثال لا الحصر:
فبالنسبة لتغيير التصريحات بتغير المواقع أذكر الحالات التالية:
فعلى المستوى الدولي، هناك حالة الرئيس التونسي الحالي، الذي انتُخب انتخابا « ديموقراطيا » بناء على التصريحات التي كان يُدلي أثناء حملته الانتخابية، بحيث أعطى صورة ذلك الابن المنبثق من الشعب، الذي لا يرغب في أية مصلحة شخصية غير المصلحة العليا للبلاد، حتى تم الترويج مباشرة بعد انتخابه لفكرة عدم تخليه عن سيارته القديمة، ورفضه الإقامة بقصر قرطاج، ناهيك عن تصريحاته ضد دولة العدو الصهيوني، لكنه لم يصمد طويلا حتى انقلب على عقبيه ليفضحَ الواقع العملي موقفه الحقيقي الذي يُفند كل التبريرات الممكنة.
إذا كان الرئيس التونسي مثالا للذي تغيرت تصريحاته بتغير موقعه من الأدنى نحو الأعلى، أي من كونه مواطنا عاديا إلى كونه رئيسا للدولة، فيمكن اعتبار الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي، مثالا للذي تبدلت تصريحاته بتغير موقعه من الأعلى نحو الأسفل، أي من كونه رئيسا للدولة الفرنسية إلى كونه مواطنا فرنسيا عاديا، ذلك أنه لما كان رئيسا كان موقفه من الصحراء المغربية موقفا ضبابيا، شأنه في ذلك شأن كل الرؤساء الفرنسيين السابقين له واللاحقين به، لكنه وبعد مرور أزيد من عقد من الزمن على مغادرته الحكم، ظهر علينا في الأيام الأخيرة بتصريح من مدينة العيون مفاده أنه كان دائما يعتبر بأن الصحراء مغربية!!!
أما بالنسبة لتغيير التصريحات دون أن تتغير المواقع، فالأمثلة كثيرة ومتباينة، وسأكتفي بثلاث حالات على سبيل المثال لا الحصر، أولها تصريحات الرئيس ساركوزي نفسه، والتي كانت تتبدل رأسا على عقب في شأن مجموعة من الأحداث والقضايا، من بينها تصريحاته الترحيبية بزيارة الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي لفرنسا سنة 2007 ، بحيث نصب له خيمة في حديقة مقره الرسمي في فندق ماريني، ورافقه في برنامج ترفيهي مُترف، بلغ حد اصطحابه في رحلة صيد، لتتغير هذه التصريحات ب 180 درجة، عندما أصبح من المُدبِّرين الأساسيين للانقلاب عليه، وقتله في أكتوبر 2011. ثانيها تصريحات الرئيس الأمريكي بايدن بخصوص حرب العدو الصهيوني على غزة، فبينما كانت تصريحاته في البداية متناسقة مع ممارسته التي جسدها بزيارته لإسرائيل، وتأكيده على دعمه اللامشروط للعدو الصهيوني، قام بتعديلها مؤخرا بعد المظاهرات الحاشدة، لمختلف شرائح المجتمع الأمريكي، المندِّدة بجرائم الإبادة التي تقوم بها إسرائيل في فلسطين عموما، وفي غزة على الخصوص، بحيث أصبح يُصرح بمطالبته الأمم المتحدة بفرض وقف إطلاق النار، علما أن أمريكا هي من استعملت الفيتو ضد مشروع القرار الذي تقدمت به البرازيل بخصوص وقف إطلاق النار. وثالثها تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون الذي التزم بتقديم الدعم اللامشروط لإسرائيل مباشرة بعد طوفان الأقصى، بل وسافر إلى تل أبيب ودعا من هناك إلى تشكيل تحالف دولي لاجتثاث حماس، غير أنه بعد فشل الجيش الإسرائيلي في القضاء على حماس وتحرير أسراه، أطلق تصريحا ينتقد فيه حرب الاحتلال وحملته البرية على غزة علانية بقوله: « يجب على إسرائيل أن تتوقف عن قتل الأطفال والنساء وكبار السن في غزة، لا يوجد مبرر للقصف »…
هذا على المستوى الدولي، أما على المستوى الداخلي فحدث ولا حرج، لكني سأكتفي بمثال واحد يتعلق بتصريحات حزب العدالة والتنمية انطلاقا من موقعه داخل الحكومة، ثم انطلاقا من تبدل موقعه بين الفترة التي سبقت الحكم واثناءه، ثم بين فترة الحكم والفترة التي بعدها. فبخصوص موقعه داخل الحكومة، نجد أن تصريحات فريقه البرلماني بخصوص تعميم اللغة الفرنسية كانت في واد، وموقفه العملي في واد آخر، وهو نفس ما حدث بالنسبة للترخيص لزراعة القنب الهندي، أما فيما يتعلق بتبدل موقعه بين ما قبل فترة الحكم وأثناءها، فنجد أن تصريحات مسؤوليه في شأن الأمازيغية وتدريسها على سبيل المثال، كانت تصب خلال الفترة الأولى في خانة الرفض، التي كانت تشاطره فيها مجموعة من الأحزاب، لتتغير خلال الفترة الثانية وتصب في خانة المدافعين عنها، لا لشيء سوى لأن الدستور أقر بكونها لغة رسمية، وفيما يتعلق بتبدل موقعه بين فترة الحكم وما بعدها، فالمثال الصارخ يتجسد في تصريحات سعد الدين العثماني بصفته الأمين العام لحزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية، ورئيس الحكومة المغربية في شأن التطبيع مع الكيان الصهيوني التي شجب فيها تطبيع الإمارات مع إسرائيل، وأعلن عن استحالة تطبيع المغرب معها، ليبرهن الواقع على بطلان هذه التصريحات من خلال توقيعه على الاتفاقية بعد مدة قصيرة، دون أن تتغير لا صفته ولا موقعه، وبعد خروج الحزب من الحكومة تواصلت تصريحات مناضليه ضد التطبيع، وعلى رأسها تصريحات أمينه العام الذي اعترف بأن التوقيع كان خطئا محاولا إيجاد مجموعة من التبريرات التي لا تُجْدِ نفعا. سأكتفي بهذا المثال بخصوص عدم الالتزام بمقتضى ما يتم التصريح به، ذلك أنه إذا ثبت هذا في حق أعضاء هذا الحزب، الذي يُفترض أنهم ينطلقون من المرجعية الإسلامية المبنية أسسها عن المبادئ، فإنه من الأولى أن توجد هذه التحولات في المواقف والتصريحات لدى باقي الأحزاب والهيئات ذات المرجعيات الغير إسلامية.
والسؤال الصعب، هو كيف لمواطن عادي أن يتعامل مع مثل هذه التصريحات، التي تتبدل بتبدل السياقات والمواقع، وفي أحيان كثيرة من داخل نفس الموقع ونفس السياق؟
والإجابة عليه تختلف باختلاف المرجعية المُستند إليها. وإذا كانت المرجعية الغربية تُحيل معتنقيها على النظرية المكيافيلية، التي يَعتبِر صاحبُها بأن الأهداف الأخلاقية شيء خطير، وأن التصرف بشكل أخلاقي يتسبب في حدوث كارثة، ليخلص من ثمة إلى نصح الحكام باستخدام الخداع والعنف كأدوات ضد دول أخرى، فإن المرجعية الإسلامية لا يمكن فصلها عن الأخلاق، حتى قال الشاعر أحمد شوقي: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت…. فـإن هُمُ ذهبــت أخـلاقهم ذهــبوا، علما أن الكذب والنفاق من أخس الخصال التي ذمها الإسلام قرءانا وسنة.
انطلاقا من محددات المرجعيتين أعلاه، تتحدد منهجية التعامل مع مختلف التصريحات أيا كان نوعها، والتي يمكن تأطيرها باتخاذ الحذر والحيطة إزاء كل ما يصدر عن الزعماء والمسؤولين، دون السقوط في فخ المكيافيلية، مصداقا لقوله تعالى في الآية 8 من سورة المائدة:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ ولعل هذا ما تعنيه المقولة المنسوبة لعمر بن الخطاب « لست بالخب ولا الخب يخدعني » أي أنني لست بالمخادع ولا المخادع يخدعني، ولعل من بين أهم الأدوات التي تساعد على التعامل مع قادة الغرب بالخصوص، أداة التاريخ التي تُبين مسار مختلف أممه في تعاملها مع بعضها البعض، وفي تعاملها مع الأمة الإسلامية. وإذا كان الأمر واضحا بالنسبة للتعامل مع تصريحات زعماء الغرب وحكامه، فإن التعامل مع تصريحات المسؤولين العرب والمسلمين، لا ينبغي أن تخرج عن إطار اليقظة والاحتراز، بحيث يُنظر في مدى تطابق أقوالهم مع أفعالهم، وإلا فالأولوية للأفعال التي تتجسد على أرض الواقع، لأن الذي يتخلى عن تصريحاته في أول امتحان، لا يمكن الوثوق به واستئمانه على مستقبل الأمة، رغم كل التبريريات والمسوغات التي يمكن أن يتذرع بها، علما أن منهم من يختبئ وراء ما جاء في الآية 106 من سورة النحل حيث يقول سبحانه وتعالى:﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ﴾، ولعل أمثال هؤلاء هم المعنيون بقوله تعالى في الآية 141 من سورة النساء:﴿الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
ختاما علينا ألا نَرهن عقولنا وأفئدتنا للآخر كيفما كان، وأن نَتَثَبَّت من كل التصريحات التي تعنينا، انطلاقا من مبدأ التبين الذي شرعه القرآن في الآية 6 من سورة الحجرات حيث يقول جل جلاله:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ صدق الله العظيم.
الحسن جرودي
Aucun commentaire