شعار اليوم العالمي للغة العربية: أهو مدح أم ذم؟
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي
شعار اليوم العالمي للغة العربية: أهو مدح أم ذم؟
من المعلوم أن الأمم المتحدة خصصت لكل لغة من اللغات الست المعتمدة لديها يوما عالميا للاحتفال بها، وهكذا تم تخصيص يوم 18 دجنبر من كل سنة للاحتفال باللغة العربية. ويُفترض أن يتم خلال هذه الأيام استحضار ما تم إنجازه لهذه اللغة أو تلك، وما هي الأهداف المرسومة والخطط العملية التي تسمح بتجسيد هذه الأهداف وأجرأتها على أرض الواقع في مختلف المجالات الحياتية.
وإذا كانت اللغة الإنجليزية تُسجل عاما بعد عام انتشارا غير مسبوق في جل بلاد المعمور، من خلال ريادتها لمختلف التخصصات العلمية، وعلى رأسها كل ما يتعلق بالمجال المعلوماتي، وإذا كان المسؤولون الفرنسيون يُرَكِّزون على الاستعمار الثقافي والقيمي، لشعوب الدول المسماة زورا بالدول الفرنكوفونية، من خلال إحداث ودعم المنظمة الفرنكوفونية، مع العلم أن توهج نجمها أصبح يتناقص شيئا فشيئا في السنوات الأخيرة، في عدد من البلدان الإفريقية التي وعت خطورة التواجد الفرنسي فيها.
إذا كان هذا هو وضع الإنجليزية والفرنسية، فالملاحظ بالنسبة للغة العربية أنها ما فتئت تخسر مع مرور الوقت، مواقع حساسة حتى في أوطانها الأصلية، والتي يُعتبر المغرب من بينها إن لم يكن في مقدمتها، وذلك بسبب محاصرتها من قبل التيار الفرنكفوني على الخصوص، وكل الذين يأتمرون بأوامره، حتى انحسرت مجالات استعمالاتها إلى حدها الأدنى. ففي التعليم على سبيل المثال، نجد أنه بعد إفشال المحاولات العديدة لتعريبه، والتي تُوِّجت باستنبات جبهة داخلية لمحاربته، من خلال إنضاج واقع يَصعُب فيه على المُعرَّبين تبوء أدنى مراكز القرار، بل وحتى الظفر بوظيفة أو شغل يمكِّنهم من ضمان لقمة عيش كريم، قلت بعد عملية الإفشال هذه، تمت فرنسته في آخر المطاف، مع وجود مجموعة من التحديات التي يطرحها تدريس كل من الأمازيغية، التي يستغلها التيار العلماني المسنود خارجيا، لخلق جبهة لمحاربة اللغة العربية بالعمل على إحداث شرخ بين الهوية العربية الإسلامية، والهوية الأمازيغية، في غياب أدنى تحرك للجهات المسؤولة، ثم تأتي اللغة الإنجليزية لتنضاف بدورها إلى المشهد اللغوي الذي سوف لن يكون بالتأكيد لصالح اللغة العربية، نظرا لمكانتها البراغماتية التي أصبحت تحتلها على الصعيد العالمي خاصة في صفوف الشباب، مع العلم أن تلويح المسؤولين بتعميمها يبقى رهينا بطبيعة العلاقات المغربية الفرنسية، بحيث من المحتمل أنها تُعتمد كورقة للضغط على السلطات الفرنسية في شأن مجموعة من المشاكل التي تخللت هذه العلاقات، كما هو الشأن بالنسبة لمشكل التأشيرة…وموقف فرنسا الرمادي من قضية الصحراء المغربية… لتصبح اللغة العربية جراء هذا كله، وربما لأسباب تتجاوزنا، يتيمة لا تجد من يدافع عنها، إلا بالقدر الذي يُصبغ المصداقية على القرارات المجحِفة والمتخَذة سلفا في شأنها، ولا شك أن الكيفية التي تمت من خلالها المصادقة على تعميم تدريس الفرنسية، من أهم المؤشرات الدالة على أن قرار التخلي عن العربية لصالح الفرنسية، كان قرارا مُبرمجا لا رجعة فيه، مما اضطر الأغلبية البرلمانية إلى اتخاذ ذلك الموقف المتخاذل، المتمثل في الامتناع عن التصويت ضده، والذي يعتبر بمثابة رفع الراية البيضاء أمام تمرير القرار.
محنة أخرى تعيشها اللغة العربية في الإدارات التي تغلب الفرنسية على جل تعاملاتها، وفي الفضاء العام الذي لا يمكن أن توصف وضعيتها فيه بأقل من النكبة، بحيث جل اللوحات الإشهارية مكتوبة بالفرنسية، مع العلم أن عددا منها مكتوب بالحرف اللاتيني ومضمونه بالدارجة، وعدد آخر مكتوب بالحرف العربي ومضمونه فرنسي، الأمر الذي عبَّر عنه كاتب الدولة للتعليم العالي سابقا خالد الصمدي بقوله: « الفضاء العام يعيش فوضى لغوية كبيرة جدا » دون أن نستثني من هذه الفوضى وسائل الإعلام على اختلافها.
وإذا كان من معنى للاحتفال بهذا اليوم، فإنه يتعين تجسيده من خلال إحداث آليات لكبح استشراء هذه الفوضى، وإخراج أكاديمية اللغة العربية إلى حيز الوجود، بعدما طال انتظارها لما يعادل عقدين من الزمن، والوقوف في وجه أولئك الذين يحاربون قيم وثوابت الأمة عبر المدخل اللغوي، من خلال محاولة اعتماد الدارجة في التدريس، ومن خلال إلغاء مجموعة من المصطلحات الشرعية بالخصوص، واستبدالها بأخرى يسهل التطبيع معها، ليصبح الزنا رضائية والشذوذ مثلية، والأم التي تلد عن طريق علاقة غير شرعية أم عازبة… سوف أعود لهذا الموضوع في مقال مستقل بحول الله.
إذا كان هذا هو وضع اللغة العربية في المغرب، وهو وضع أكاد أجزم بأنه لا يختلف كثيرا في باقي البلاد العربية، فماذا عن وضعها على مستوى الأمم المتحدة التي خَصَّتها بهذا اليوم؟ للإجابة عن هذا السؤال سأكتفي بتَدَبُّر الشعار الذي اعتمدته منظمة اليونسكو لهذه السنة ألا وهو: « العربية: لغة الشعر والفنون ». لأول وهلة يبدو الشعار مدحا للعربية، وقد بإمكانه أن يكون كذلك لولا الوضع المزري الذي تعيشه الأمة العربية، إذ كيف لِلُغةِ أمة تأكل بما لا تزرع، وتتداوى بأدوية لا تنتجها، وتحارب بأسلحة لا تصنعها، أن تُمدَح؟ خاصة إذا علمنا أنها لغة القرآن الذي تحاربه الأمم المتحدة بعملها الدؤوب على إحلال قيم وثقافات مكان القيم والثقافة التي يدعو إليها، ومن ثم فالأولى لها أن تُذم، ويبدو أن هذا الذم المدح أشبه إلى حد بعيد إهداء رئيس الكنيست نظيره المغربي أصغر نسخة للمصحف الشريف في العالم، وهذا الذم المستتر تُحيلنا عليه الدراسات البلاغية من خلال ما يُعْرَفُ بأسلوب « تأكيد الذم بما يشبه المدح » والذي يُعَرَّفُ اصطلاها ب: »بناء حكم معنوي موهم يخالف المقصود، ثم الاستثناء منه بما يثبت غرض المتكلم »، ذلك أن قَصْر اللغة العربية على الشعر والفنون، لا يعني أنها ليست لغة العلوم والتقنيات فقط، بل يُستشف من ذلك ذمُّ حتى لشعرها وفنونها إذا كانت التعابير العربية المعتمدة فيهما غير قادرة على استيعاب الجوانب العلمية والتقنية، لذلك عليها أن تكتفي بالغزل والهجاء والرثاء…
في الأخير يجدر بكل غيور على هذه اللغة العظيمة، التي لولا امتيازها عن باقي اللغات لما اختارها الله لكتابه العزيز، وهوما عبر عنه الشاعر حافظ إبراهيم بقوله:
وَسِعتُ كِتابَ اللَهِ لَفظاً وَغايَـــــــةً وَما ضِقتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ
فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ وَتَنسيقِ أَسماءٍ لِمُختَرَعـــــاتِ
قلت على كل غيور أن ينتبه إلى كل ما يحاك ضدها، وعدم الرضوخ والاستسلام للواقع الذي يجتهد أعداؤها لسيادته، بهدف القضاء عليها أو تشويهها على الأقل، ولعل أَقَلَّ ما يمكن القيام به تجاهها، هو الحرص على استعمالها في محادثاتنا ومراسلاتنا، وفي جميع الأماكن التي لا تكون فيها اللغة الأجنبية ضرورية، بالإضافة إلى رفض استعمال المصطلحات المستحدثة التي تروم التطبيع مع الثقافة الغربية وقيمها الفاسدة، وأختم بوصية الفاروق عمر ضي الله عنه في شأنها حيث قال: « تعلَّموا العربية؛ فإنها تزيد في المروءة، وتعلموا العربية؛ فإنها من الدين ».
الحسن جرودي
Aucun commentaire