ثوابت ومتغيرات الأسرة المسلمة
ثوابت ومتغيرات الأسرة المسلمة
مما لا شك فيه أن التحول والتغير من السنن الكونية، ومن البديهي كما جاء على لسان الدكتور إلياس طه الحاج: » أن الحياة وظروفها تتغير باستمرار، ولا تبقى راكدة لا يمسها التـجـديد…فالتغيير سمة أساسية من سمات الكون كله » ([1]) ولا تختلف المجتمعات البشرية في طبيعتها عن ذلك، فأي مجتمع يتغير في نواحيه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كما قد يتغير في ثقافاته وعاداته وتقاليده وقيمه وأنماط سلوك أفراده. يرى صبري الدمرداش أن: » التغيير الذي يحدث في المجتمع قد يتم بخطوات وئيدة فيكون نموا، وقد يكون متدرجا فيكون تطورا، وقد يكون في قفزات كثيرة فيكون ثورة أو انقلابا أو طفرة، ولا يلحق التغيير بكل عناصر المجتمع، وإنما قد يكون أكبر وأعمق في العناصر المادية منه في العـناصر المعـنوية. »([2]) فقد شهد العالم الإسلامي تغيرات في العلاقات والبنيات والقيم الاجتماعية بتأثير العولمة من جهة، ونمو وظهور المجتمعات متعددة الثقافات من جهة أخرى نتيجة لحركة النزوح والهجرات السكانية داخل وبين الدول. وبخصوص الأسرة يؤكد عبد الرحيم مراد على كثرة التغيرات التي تلحقها بقوله: « وما أكثر المتغيرات التي تقتحم حياتنا اليوم والتي تكاد بمعظمها تستهدف الأسرة كنظام حياة، وكمنظومة قيم. »([3])
فما ثوابت الأسرة المسلمة؟ وما حظها من التغيير والتطور؟ وما مدى مناعتها وصمودها في وجه العولمة ؟
الثوابت هي الأمور التي ينبغي أن تظل دون تغيير أو تبديل على مر الزمان واختلاف المكان، وهي بمثابة القواعد الحاكمة على الأفراد، والإطار الضابط لسلوكهم وتصرفهم والميزان الدقيق الذي لا يخطئ. يقول الطيب برغوث: « هناك أصول ثابتة لا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة،و هي ركائز مستقرة تدور عليها حركة الحياة الإنسانية الروحية والنفسية والفكرية والاجتماعية والفردية والجماعية »([4]) وبشيء من الإجمال يمكن القول: إن الثوابت في الإسلام هي ما أبانه الله لخلقه نصا،وجاءت بصيغة قاطعة لا مجال للاجتهاد فيها،فهي لا تتغير بتغير الزمان ولا المكان ولا الأشخاص ولا البيئات، كما أن الأحكام المتعلقة بها جاءت تفصيلية سموا بها عن الجدل، كتحديد أنصبة الوارثين وتحريم الزنا والقذف وأكل أموال الناس بالباطل والقتل بغير حق،وما إلى ذلك من أصول العقائد ومسائل الإيمان. والثوابت ليست مجال مساومة وهذا يستدعي من الأمة الإسلامية أن لا تتهاون في أمرها.
فلولا هذه الثوابت لأصبح الدين عجينة يشكلها من يشاء كما يشاء، ولأصبح لكل عصر تصور ودين خاص، ولتعدد الإسلام بتعدد الأزمنة والأمكنة والأقطار والجماعات. يقول درويش الحلوجي منتقدا دوركهايم: « إن الدين ثابت من ثوابت كل مجتمع، بعيدا عن التنوعات التي تميز كل مجتمع، وبالتالي لا يوجد هناك مجتمع بلا دين. »([5]) وفي هذا السياق يرى حسن الشقرماني أن : » الأسرة المسلمة مطالبة بأن تتزود بنظرة مستقبلية متفائلة وأن تجدد الثقة في دينها، وأن تعرف أنه طريق صلاحها ورفعتها ومجدها وإشراقها على العالم الإسلامي من جديد لتساعده على التقدم والنمو، ويقوم وعيها بذاتها انطلاقا من استحضار الثوابت التي تقوم عليها الأسرة. »([6]) والأسرة بهذا الوفاء للموروث الديني ستعيش عصرها، وتواكب كل تجديد فيه، وترحب بكل تغيير ما لم يمس جوهر وفائها لدينها لأن الحياة في صيرورة، ولا شيء يظل على حاله.
فكما جسد السلف الصالح مبادئ الدين في سلوكاتهم ومواقفهم وأسرهم، يجب كذلك أن نجعل من ثوابت ديننا واقعا متحركا يسير بخطى ثابتة داخل الحياة المعاصرة، لديه من التحصينات ما يكفي لدرء الشبهات، وإقصاء كل ما يتناقض مع جوهر العقيدة الإسلامية. يقول الشيخ القرضاوي في معرض حديثه عن الثوابث المتعلقة بالأسرة: »من الثوابت أيضا الأحكام القطعية في شؤون الفرد والأسرة والمجتمع »([7]) ويضيف بأن هذه الأخيرة: » ثبتت بالنصوص المحكمة،و أجمعت عليها الأمة،و استقر عليها الفقه،مثل إباحة الطلاق وتعدد الزوجات، بما يتبعها من قيود وشروط وإيجاب النفقة على الزوج، وإعطائه درجة القوامة على الأسرة، وتوريث الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين »([8])
إن التطلع إلى بناء الإنسان المسلم المعاصر يتطلب المحافظة على أصالته وعصرنته من خلال الأسرة، فهي الوحدة الأساسية في تثبيت السمات الجوهرية للمؤسسات التي تتعامل مع الإنسان وتتفاعل معه، وهذا يعني أن مساهمة الأسرة في عملية البناء الحضاري لها وزنها الكبير، ودورها الخطير في إكساب الأبناء المعايير الربانية التي تساعدهم على الثبات في المواقف الصعبة.
2. 2 ـ الأسرة المسلمة في ضوء سنن التغيير:
من البديهي أن التغير والتطور سنة كونية،وهو أمر واقع وظاهرة عيانية موجودة في كل المستويات ابتداء من المادة الحسية،وانتهاء بالحياة الاجتماعية والنفسية،ومن هنا يرأى الكثير من العلماء: » أن الإيمان نفسه يزيد وينقص… وأن التحول الفكري يقود إلى التغير في السلوك والاستجابة. »([9])
فقد جاء في مقدمة ابن خلدون: »أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول، سنة الله التي قد خلت في عباده. »([10])
وبما أن التغيير حركة قد تكون إلى الخير، وقد تكون إلى الشر، فإن الدعاة والمصلحين يؤكدون على: « أن غاية التغيير التي ترفع، ويلتف حولها الجماهير المطالبة بالتغيير لا بد أن تكون واضحة، هدفها إقامة دين الله. »([11]) ذلك أن التغيير في المنظور الإسلامي تحكمه القواعد الشرعية، فهو تطور للأحسن دون تفلت، وتقدم للأمام دون تهور، واجتهاد مع استمرار في الطريق دون جمود أو تحجر، وأخذ بالعصرنة دون انحراف، وكل ذلك في إطار الثوابت الحاكمة لأنه لا يمكن للتغيير أن يُحدث أثره إلا في إطارها، وقد أولى سيد قطب موضوع التغييراهتماما كبيرا من حيث مقاصده والمبادئ التي يقوم عليها. فهو يحدد الهدف من التغيير الذي ينشده بقوله: » إن مهمتنا الأولى هي تغيير هذا الواقع الجاهلي من أساسه، هذا الواقع الذي يصطدم اصطداما أساسيا بالمنهج الإسلامي،وبالتصور الإسلامي والذي يحرمنا بالقهر والضغط أن نعيش كما يريد لنا المنهج الإلهي. »([12])
يقول الأسمر أحمد رجب في هذا السياق: » الإسلام بطبيعته لا يبدأ التغيير من المنطلقات المادية والدوافع الأولية والاحتياجات الآنية، فهي مع أهميتها، تبقى تابعة للمنطلقات المعنوية التي تشكل القوام الأساس لإنسانية الإنسان، لذلك يبدأ التغيير من ضبط المعتقدات من خلال ربطها بخالقها وموجدها ـ عز وجل ـ مما يحقق الارتقاء الروحي الذي يقود القيم والسلوك في الاتجاه الصحيح. » ([13])
يحدث التغير في التصور الإسلامي من داخل الإنسان وبإرادته ووفق اختياره، والله سبحانه وتعالى يعين الإنسان على إحداث التغيير الذي اختاره بنفسه وبإرادته الحرة، وقد أكد القرآن الكريم على إرادة الإنسان ودوره في عملية التغيير سواء كان ذلك في الاتجاه الإيجابي أو السلبي، يقول عز وجل: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ، وأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾([14])
والتغيير من داخل الإنسان يكون بتغيير الأنماط القيمة والعقائدية والمعيارية، فإذا تغير ذلك انعكس على السلوك الخارجي للفرد والمجتمع، وبالتالي على النظم والمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية. فالتغيير إذن ليس أمرا عرضيا طارئا، إنما هو صفة الوجود والحياة. ومن هنا يرى الشيخ عبد العزيز بن محمد السرحان أن: » من أسباب تغيير الحال استشعار المسؤولية من كل فرد من أفراد المجتمع، وذلك أن يشعر كل واحد من المسلمين مهما كان موقعه وشأنه أنه مسؤول ومساءل، فيبدأ بإصلاح نفسه وبيته، ثم تتسع دائرة الإصلاح حتى تشمل جلساءه وجيرانه ومجتمعه. وليعلم كل واحد منا أنه على ثغر من ثغور الإسلام، فليحذر أن يؤتى من قبله. »([15])
والتغيير ليس مسؤولية فردية فحسب،بل هو مسؤولية جماعية مصداقا لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾([16]) فتغيير أحوال المسلمين مرهون بتغيير أنفسهم. يقول علي سعيد إسماعيل: » فعلى الرغم من أن تغيير ما بالأنفس أساس تغيير المجتمع، إلا أن الفردية وحدها ليس لها حظ في التغيير الشامل الذي يقوم على العمل الجماعي، وليس على أساس المجهودات الفردية غير المنسقة والتي أحياناً ما تكون متضاربة، ولا تؤدي إلى الغرض المطلوب. »([17]) وحتى تؤتي عملية التغيير أكلها بصورتها الفردية والجماعية، لا بد من التأكيد على ضرورة الانطلاق من التربية كعامل أساس في التغيير القائم على بصيرة، فهي حجر الأساس في إعداد شخصية الفرد في المجتمع المسلم وقد أشارعبد الله الرشدان إلى دور التربية الحيوي في فترة التغيير والمتمثل في: » إعادة البناء،والفحص المستمر للآراء والأفكار والمعتقدات والمؤسسات. »([18])
يتأثر النظام الأسري بالعديد من العوامل التاريخية والحضارية والنفسية والثقافية التي لها انعكاسات على النظم الأسرية نتيجة للعملية التطورية أو عملية التغير الاجتماعي، وبناء على عمليات التغيير واتباعا لمقاصد الشريعة في تحقيق الحاجيات والتحسينات فقد تتغير بعض الأحكام المدنية لصالح النظام الأسري،ويرى الدكتور مصطفى أحمد الزرقا: » أن الأحكام التي تتبدل بتبدل الزمان وأخلاق الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية، أي التي قررها الاجتهاد بناء على القياس، أو على دواعي المصلحة. » ([19])
ومن هنا فإن الهاجس الذي ينبغي أن يحكم العقلية المسلمة هو الاجتهاد في كيفية تنزيل القيم الإسلامية على واقع الحياة بشكل عام،وواقع الأسرة بشكل خاص، والاقتناع بأن الفهوم والاجتهادات السابقة التي كانت ملائمة لعصرها قابلة للنسخ والتجديد والتغيير في ضوء تغير المجتمعات، وبما أن المتغيرات تدخل في باب الظنيات، وهي مجال العقل والتفكر والتدبر والاجتهاد، فإن من أنكر فيها فهما معينا تحتمله النصوص القرآنية كما تحتمل غيره، لا يكون خارجا عن الملة؛لأنه آمن بالثوابت القطعية وما حاد عنها، ولكنه أنكر وجها من الظنيات المتغيرة المجتهد فيها، وكل مجتهد يتبع ما ترجح عنده، فهو على حق ما دام أهلا للاجتهاد والنظر. وفي هذا الإطار دعت مدونة الأسرة إلى: » احترام قدسية نصوصها المستمدة من مقاصد الشريعة السمحة، واعتماد غيرها من النصوص التي لا ينبغي النظر إليها بعين الكمال أو التعصب، بل التعامل معها بواقعية وتبصر باعتبارها اجتهادا يناسب مغرب اليوم. » ([20])
وإذا كان البعض يرى: » أن من التغيير ما يعد تصحيحا لأغلاط متراكمة،و أوضاع مزرية مضت على الصمت عليها سنين عديدة وأجيال متعاقبة. »([21]) فإن من التغيير ما يعد حربا على الشرع، وقلبا لموازينه على طريقة من يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف. فهذا التغيير مرفوض رفضا تاما، والفضيلة في الوقوف في وجهه.
وفي سؤال يتضمن اتهام مشايخ الأزهر بالجمود وعدم مواكبة التطور، يرد محمد عبد المنعم البري بقوله: » وإذا كان الدفاع عن ثوابت القرآن وثوابت الرسالة الخاتمة جمودا فنحن لا ننكر هذه التهمة، إن كانت تهمة. ونحن لن نفرط أبدا في أخلاقنا أو في آداب ديننا ولن نتزحزح عن إيماننا بمبادئنا وثوابتنا. » ([22])
3. 3ـ الأسرة المسلمة بين الثوابت والمتغيرات:
ما من شك في أن المجتمع المسلم في حاجة إلى التغير والثبات في آن واحد، فالتغير ضروري لمواكبة روح العصر المتجدد، وتمكين الإنسان من التكيف معه، وأما الثبات فهو الذي يحفظ للمجتمع تماسكه وهويته واستقراره، والله ـ عز وجل ـ أودع في الإسلام من الثوابت ما يضمن به الاستمرار، ومن المتغيرات ما يكفل به الصلاحية والملاءمة لكل الظروف والأزمان. يقول سيد قطب: » فالثبات والتغير متلازمان في كل زاوية من زوايا الكون،وفي كل جانب من جوانب الحياة »([23]) ثم إن التجديد والتغيير المطلوب لا يعني المساس بالثوابت الشرعية الراسخة، فالإسلام دين متجدد قادر على استيعاب كافة المستجدات في المجتمع العصري، وهذا ما يؤكده الطيب برغوت بقوله: » والإسلام لكونه شريعة ربانية، جاء متضمنا لمبادئ التطور في حياة الإنسان الفردية والجماعية ليجنب الإنسانية كل شذوذ أو فوضى. »([24])
تتجلى خاصية الثبات في النظام الإسلامي في أصول العقائد،والعبادات،والقيم الأخلاقية والمرونة في فروع أحكامه الاجتهادية المبنية على أصولها الشرعية، ومن هذه الأصول والثوابت القضايا العقدية،و الشؤون العبادية،و الأخلاق الأساسية للمجتمع، فهذه الجوانب من الثوابت التي لا يدخلها التطور مهما تبذلت الأوضاع والعادات والأزمان بخلاف غيرها من الجوانب المتعلقة بالوسائل والأساليب والكيفيات التي لم ينص عليها، فإنها تتطور باستمرار تطورا محكوما وموجها بسنن الله في الآفاق والأنفس.
وباستقراء أدلة الأحكام والقرائن والأمارات الشرعية قرر علماء الشريعة محددات كل من الثوابت والمتغيرات. يقول ابن القيم ـ رحمه الله ـ: « الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة، هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم، ونحو ذلك، فهذا لا يتطرق إليه اجتهاد يخالف ما وضع عليه. والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا كمقادير التعزيزات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة. » ([25])
وفي نفس السياق يقول الإمام الشاطبي: « إن العوائد المستمرة ضربان: أحدهما العوائـد الشرعية الـتي أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابا أو ندبا، أو نهى عنها كراهة أو تحريما أو أذن فيها فعلا أو تركا، والضرب الثاني: هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل شرعي، فأما الأول: فثابت أبـدا كسائـر الأمـور الشرعية… فإنها من جملــة الأمور الداخلة تحت أحكام الشرع، فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين فيها. »([26])
لكل أمة ثوابتها وثقافتها المتميزة التي تنطلق منها،وتفخر بها وتحتكم إليها عند الحاجة، وهذه الثوابت لا تعني جمود الفكر وعدم الاستفادة من المستجدات، ولكنها حركة وتفكير في إطار قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُومِنٍ وَلا مُومِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا اَن تَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنَ اَمْرِهِمْ ﴾([27]) وقوله عز وجل: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُومِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ، وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾([28])
فالإسلام يؤكد على الثبات على الأصول والكليات، والمرونة في الفروع والجزئيات الثبات على القيم الدينية والأخلاقية، والمرونة في الشؤون الدنيوية. يقول الشيخ القرضاوي: « فبالثبات يستعصي هذا المجتمع على عوامل الانهيار والفناء أو الذوبان في المجتمعات الأخرى أو التفكك إلى عدة مجتمعات تتناقص في الحقيقة، وإن ظلت داخل مجتمع واحد في الصورة. وبالمرونة يستطيع هذا المجتمع أن يكيف نفسه وعلاقاته حسب تغيير الزمن وتغيير أوضاع الحياة دون أن يفقد خصائصه ومقوماته الذاتية. »([29]) فالخطر كل الخطر على الحياة الإسلامية أن نثبت ما من شأنه المرونة والتطور أو نغير ما من شأنه الثبات والخلود فتضطرب الحياة وتختل الموازين، وهذا ما يفهم من قول الدكتور إبراهيم لبدي: « كل مجتمع زادت متغيراته عن ثوابته فهو مجتمع يشرف على فقدان شخصيته الخاصة. وكل مجتمع كثرت ثوابته بحيث لم يبق من مجالات واسعة لمتغيرات الظرف التاريخي لابد له في النهاية من الجمود والتقوقع حول نفسه أو الانفلات فالانفجار. »([30]) ويرى الشيخ القرضاوي أن ما يحدد ثوابت الأمة الإسلامية هي: » الأحكام القطعية في شؤون الفرد والأسرة والمجتمع والتي ثبتت بالنصوص المحكمة وأجمعت عليها الأمة واستقر عليها الفقه « ([31]).
وثمرة القول فإن تشبث الأسرة المسلمة بثوابتها لا يمنعها من مواكبة التجديد والترحيب بكل تغيير ما لم يمس جوهر وفائها لدينها لأن الحياة في صيرورة، ولا شيء يظل على حاله.
وبهذا فإن الأمة الإسلامية ليست ضد التغيير والتحول والانفتاح ومسايرة روح العصر ولكنها ضد أي تغيير يمس أحكام شرعية قرآنية أو حديثية واضحة ومُجمع عليها من قبل الأمة، ومن هنا يمكن التحدث في جميع المقتضيات الاجتهادية المتعلقة بمدونة الأسرة،وهي كثيرة،ولكن لا يمكن التحدث فيما هو قطعي الثبوث والدلالة.
([1]) المناهج بين الثوابت والمتغيرات – ص 133 – مكتبة الأقصى- عمّان- 1990م
([2]) المناهج حاضرا ومستقبلا – ص 68 – مكتبة المنار الإسلامية – الكويت -2001م
([3]) الأسرة العربية في وجه التحديات والمتغيرات المعاصرة – مؤتمر الأسرة الأول 5/6 أيار 2002م- ص 19- كلمة – دار ابن حزم- بيروت – لبنان- ط1- 2003م
([4]) الواقعية الإسلامية في خط الفعالية الحضارية – ص 39- دار قرطبة – ط1- 2004م
([5]) سوسيولوجيا الدين – ص 231 – دانيال هيرفيه ليجيه وجان بول ويلام- ترجمة: درويش الحلوجي- المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة – 2005م
([7]) الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي، ص 73، مؤسسة الرسالة – بيروت- لبنان – ط3- 2001م
([9]) رؤية في منهجية التغيير- ص27 – حسنه عمر- المكتب الإسلامي- بيروت- 1994م
([10]) ج1 ص 28 – تحقيق: أبو عبد الله السعيد المندوه- مؤسسة الكتب الثقافية- بيروت- لبنان- ط2-1996م- اُنظر: أسس التربية- ص 106 – بدران شبل محفوظ فاروق – دار المعرفة الجامعية – الإسكندرية – بدون ط- 1977م
([11]) المطالبة بالتغيير في الميزان الشرعي – ص 23
([12]) معالم في الطريق- ص 99 – دار الشروق – بيروت- بدون ط – بدون ت
([13]) فلسفة التربية الإسلامية انتماء وارتقاء – ص 315- دار الفرقان للنشر والتوزيع- عمان – 1997م
([15]) من أسباب تغيير حال المسلمين – ص 15/16 – مجلة أمتي – العدد 73- ماي 2011م – اُنظر: رؤية في منهجية التغيير- ص17
([17]) أصول التربية الإسلامية – ص 179- دار الفكر العربي- القاهرة- بدون ط – 1993م
([18]) علم الاجتماع التربوي- ص257- دار عمار للنشر والتوزيع- عمان- 1984م
([19]) المدخل الفقهي العام- ج2- ص 941/ 942 – دمشق- مطبعة الإنشاء- ط9 – 1965م
([20]) ديباجة مدونة الأسرة ص 5- بتصرف
([21]) المطالبة بالتغيير في الميزان الشرعي – ص 25- مجلة أمتي – العدد 72- أبريل 2011م
([22]) جريدة الشرق الأوسط – ص 15 – العدد 10152 – 14 / 9 / 2006 م
([23]) في ظلال القرآن – ج5 – ص 3188/3189
([24]) الواقعية الإسلامية في خط الفعالية الحضارية – ص 40
([25]) إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان – ج1- ص331- تحقيق: محمد حامد الفقي – ط1- دار المعرفة- بيروت-1395هـ – 1975م – اُنظر: المبادئ والقيم في التربية الإسلامية – ص 35 – خياط محمد جميل بن علي – جامعة أم القرى- مكة المكرمة – 1996م
([26]) الموافقات- ج 4 – ص 215/ 216
([29]) الصحوة الإسلامية وهموم الوطن العربي والإسلامي- ص 78
([30]) الأسرة في ضوء المتغيرات الحديثة – ص 130 – الأسرة العربية في وجه التحديات والمتغيرات المعاصرة – مؤتمر الأسرة الأول 5- 6 أيار 2002م- دار ابن حزم- بيروت – لبنان- ط1- 2003م
Aucun commentaire