حتى لا يكون مصير « الأنْجْلزَة » من مصير التعريب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي
حتى لا يكون مصير « الأنْجْلزَة » من مصير التعريب
أعلم أن الانتقال من لغة معينة إلى العربية، أو الفرنسية يسمى على التوالي: تعريبا أو فرنسة، لكني لم أعثر على تسمية « أنْجْلزة » التي يُعبَّر به عن الانتقال من إحدى اللغات إلى الإنجليزية، إلا بعد جهد جهيد.
الدافع إلى البحث عن هذه التسمية، هو قرار وزارة التربية، بخصوص التعميم التدريجي للإنجليزية في التعليم الإعدادي، وهو قرار يقتضي طرح السؤال: وماذا بعد؟ أي هل سيُكتفى بتعميمها بالتعليم الإعدادي، على غرار التعليم الثانوي بمختلف شُعبه؟ ثم يبقى وضعُها القانوني والتربوي على ما هو عليه؟ بمعنى أنها ستبقى لغة أجنبية ثانية؟ أم أنها ستتبادل الأدوار مع الفرنسية؟ لتصبح بمثابة اللغة الأجنبية الأولى، التي ستُدرس بها المواد العلمية مكان الفرنسية، مما يجعلنا أمام « أنجلزة » هذه المواد لتصبح معها الفرنسية لغة أجنبية ثانية، على غرار الإسبانية والألمانية وحتى الصينية ولم لا؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، يتعين الرجوع إلى المنطلقات المعتمدة، والأهداف المتوخاة، من قبل المسؤولين بخصوص تعميم تدريس الإنجليزية، وأزعم أن هناك منطلقان لا ثالث لهما: الأول يتعلق بعملية الشد والجذب التي تحكم العلاقات المغربية الفرنسية منذ مدة؟ بحيث يُحتمل أن يكون الهدف هو إعطاء إشارة إلى إمكانية الاستغناء عن اللغة الفرنسية، إلى حين خروج فر نسا من موقفها الرمادي، بخصوص قضيتنا الوطنية، مما قد يعني أن الأمور سترجع إلى مجاريها، بمجرد رضوخها للمطلب المغربي المتمثل في الاعتراف الصريح بمغربية الصحراء، ثم يبقى الوضع على ما هو عليه، بالنسبة لمكانة كل من الإنجليزية والفرنسية، خاصة وأن تعميم الأولى في الإعدادي لن يضر الفرنسية في شيء. وإذا كان هذا هو المنطلق، فإني أعتقد أن المغرب هو الخاسر في هذه العملية، على الأقل على المدى القصير، علما أن هذا التعميم لن يكون مجانيا، وإنما يحتاج إلى موارد مالية وبشرية إضافية، نحن في حاجة إليها لتحسين وضعية المدرسين، ولتجهيز المختبرات و… هذا من جهة، ومن جهة ثانية يبدو أن واقعنا اليومي يوحي بأن الشباب، بصفة عامة، يتعاملون وبنجاح مع وسائل التواصل الاجتماعي، باستعمال الإنجليزية، حتى قبل التفكير في تعميمها على الإعدادي، عكس تعاملهم بالفرنسية، وهذا على الرغم من الأهمية التي مُنحت لها، من خلال فرنسة المواد العلمية، وإدراجها في المراحل الأولى من التعليم الابتدائي، لذا يبدو أنه سوف لن تكون للتعميم أية قيمة مضافة، مقارنة بالمجهود المادي والبشري الذي يُتوقع بذله، اللهم ما سيكون من إثقال كاهل التلاميذ بحصص غير ذات فائدة في واقهم العملي.
أما المنطلق الثاني، فيندرج في إطار تبنِّي استراتيجية محكمة، تنطلق من رؤية واضحة لمستقبل التعليم عندنا، في علاقته بمستقبل كلا اللغتين، مع العلم أن كل المؤشرات تشير إلى أن المستقبل للإنجليزية، باعتبارها لغة العلم بامتياز، عكس الفرنسية التي أصبحت تفقد نفوذها في المجال العلمي، حتى داخل فرنسا نفسها. وإذا كان هذا هو المنطلق المأمول، فإني أعتقد أنه يتعين اتباع مجموعة من الخطوات المنهجية، التي تسترشد بالتجارب السابقة، لا من حيث تثمين الإيجابيات فحسب، وإنما لتفادي السلبيات وهي كثيرة، وفيما يلي بعضا منها، بخصوص تجارب كل من التعريب والفرنسة والمسالك الدولية:
- ففيما يتعلق بالمسالك الدولية، يتعين إعادة النظر في الحيثيات التي كانت وراء ترسيم العمل بمسلك اللغة الإنجليزية منذ الموسم الدراسي 2017/2018 بمؤسستين يتيمتين، بكل من الدار البيضاء وتطوان، ومنذ ذلك الحين لم يُلاحظ أي تطور لا في عدد المؤسسات، ولا في عدد التلاميذ، ولا في الإمكانيات المتاحة، بحيث لحد الآن، ليس هناك لا مقررات دراسية، ولا كتب مدرسية، ولا تكوين لا للأساتذة ولا للمفتشين بهذه اللغة، إلا ما كان من تكوين ذاتي للمنخرطين في العملية.
- وفيما يتعلق بفرنسة المواد العلمية، فقد عايشتُ حالة التخبط التي وقع فيها الأساتذة والمفتشون على حد سواء، عندما نزَل عليهم قرار تدريس المواد العلمية بالفرنسية بالجذوع المشتركة كالصاعقة، بحيث لم يتم توفير حتى الحد الأدنى من العدة البيداغوجية، المتمثلة في التوجيهات التربوية، والكتب المدرسية، بما ألجأ بعض النيابات آنذاك إلى اعتماد أسلوب الترغيب تجاه الأساتذة حتى يقبلوا بالتدريس بالفرنسية، من خلال تخفيف جداول الحصص وإعدادها، بحيث يتم تجميع حصصها في أول الأسبوع على سبيل المثال، وباستثناء الأساتذة الذين كانت لهم تجربة التدريس بالفرنسية قبل التعريب، فقد وجد جل من انخرط في العملية أنفسهم أمام ضرورة اعتماد الدارجة لسببين: الأول يتعلق بعدم تعودهم على التخاطب بالفر نسية، والثاني بضعف مستوى التلاميذ الذين كانوا يطالبونهم بالتعريب، بل وصادفت بعض الحالات التي اشتكى فيها الآباء من عدم استعمال بعض الأساتذة للعربية، وهم الذين بذلوا كل ما في وسعهم، حتى يتم تسجيل أبنائهم في الأقسام المفرنسة، مما جعل من استعمال الدارجة أمرا مقبولا، وهي « اللغة » السائدة لحد الآن في معظم الحالات، وبذلك يصبح تدريس المواد العلمية « عيوشيا » نسبة إلى عيوش الذي كان ينادي باستعمال الدارجة، لينطبق علينا مثل الغراب الذي لم يستطع تقليد مشية الحمام، ولا الاحتفاظ بمشيته…
- أما عواقب التعريب فحدث ولا حرج، أهمها إحداث صورة مشوهة لدى الآباء، بل ونوع من الحساسية المرضية اتجاهه، لأسباب متعددة أهمها: انسداد الآفاق أمام التلاميذ الذين شملتهم التجربة، بسبب عدم تعريب التعليم العالي، الذي تحول إلى تعليم « عرنسي » حسب شهادة مجموعة من الأساتذة الجامعين، وبسبب لجوء المسؤولين والميسورين إلى المدارس الخصوصية، التي تعتمد الفرنسية لغة للتدريس، مما يحد من حظوظ المعربين في مجال الشغل بصفة عامة ومن شغل مراكز القرار بصفة خاصة.
باستقراء هذه التجارب، من بينها التجربة الحالية المتعلقة « بالأنجلزة »، يبرز عامل مشترك بينها، ألا وهو عامل التسرع، وعدم التأني إلى حين توفير المستلزمات التربوية والمادية، مما يرفع من احتمال نجاح أية تجربة من هذه التجارب، ولهذا لا بد من اعتماد مشروع واضح المعالم، خاصة إذا تم عقد النية على أنجلزة المواد العلمية، وذلك من خلال تحضير العدة البيداغوجية، ودراسة ظروف التنزيل قبل تعميم التجربة، وذلك باعتماد مقاربة التدرج، بحيث يتم إحصاء عدد المؤسسات التي تتوفر فيها هذه الشروط، وكذا عدد الأساتذة الأكفاء الراغبين في الانخراط في التجربة، دون إغفال إعداد استمارة توجه للأولياء والتلاميذ الذين يرغبون في الدراسة بالإنجليزية، ليتم بعد ذلك القيام بتجربة محدودة، يُنطَلَق من دراسة نتائجها في عملية التعميم التدريجي، بموازاة مع توفير شروط النجاح وتفادي عوامل الفشل والإخفاق.
في الختام أرجو ألا تكون « الأنجلزة » هي منتهى ما يطمح إليه المسؤولون عندنا، وألا تُنسيهم البراغماتية التي تفرض اعتماد هذه اللغة في المجال العلمي بالخصوص، قلت ألا تنسيهم في اعتماد استراتيجية تسمح بتبوئة اللغة العربية المكانة التي تليق بها، لكونها ترتبط ارتباطا وثيقا بهويتنا الدينية والوطنية، عكس اللغات الأجنبية، التي يمكن أن يتغير نفوذها، بتغير تموقع أصحابها في ساحة الأقوياء، التي يبدو أن الصين أصبحت تقتحمها من بابها الواسع.
الحسن جرودي
Aucun commentaire