من التلميذ المِحفظة إلى التلميذ الخِزانة
رمضان مصباح
الحلقة الثانية من موضوع:أكل هذا وليمة لأعشاب البحر؟
تذكير:
59 المائة من التلاميذ “المغاربة” لا يتحكمون في كفايات الحد الأدنى من مستويات الأداء في القراءة.
في اقتصاديات التربية، هذا يعني أن 59 % من المال العام، المستثمر في التعليم: أجورا، بناياتٍ، تجهيزاتٍ؛ إضافة طبعا إلى الإنفاق الأسري التربوي؛ تحَيَّفَها نهرُ أبي رقراق، ضمن أنهار أخرى، وانتهت في بحر الفشل “وليمة لأعشاب البحر”.
وحينما نضيف إلى هدر المال العام والخاص، الزمنَ المدرسي الضائع، في عصر “النانو” والذكاء قاتل الذكاء البشري؛ ترتسم المأساةُ جليةَ الهول أمام أنظارنا.
أفضت الحلقة الأولى من الموضوع،إلى عنصر مفارق:
مؤسساتنا التعليمية التي لا تقرأ:
هي تقدم معارف متنوعة،بتنوع الوحدات والمواد ومفردات البرامج- وفق العقد الديداكتيكي الذي يوثق بينها وبين الدولة و الأسر،برعاية الوزارة الوصية – لكنها لا تقرأ ولا تُقرئ كتبا ،خارج البرامج الرسمية .
نعم هي برامج رسمية صارمة ،ومراقبة التنزيل؛وفيها يُمتحن المستهدفون بها .
طبعا هذا ضروري إداريا،إذ لا يتصور أن يتحقق تكافؤ الفرص ،بين جميع التلاميذ أنى تواجدوا في الوطن،دون توحيد البرامج ،وتقييم تحصيلها وطنيا،جهويا وإقليميا.
لكن ما هو ضروري وواجب إداريا ،في مجال التربية والتعليم،ليس هو الأمثل معرفيا.
وبتعبير آخر :
كلما احتكمنا إلى الصرامة ،في اعتماد برامج تعليمية بعينها – ولا شيء سواها – كلما ضيقنا على المعرفة بمعناها الشامل.
يمكن اعتبار انضباط مؤسساتنا للبرامج المقررة – رغم ايجابياته – إلغاءً لحضور الكتاب ،والمعرفة العامة ،وتكريسا للتلميذ المحفظة ،وليس التلميذ الخزانة.
حتى مؤسساتنا التعليمية – خصوصا الإعدادية والتأهيلية -كما أسلفت ،لاترى ،مع هذا الوضع،حاجة لتُحل الخزانة مقام الصدارة.
تنجز كل العمليات الإدارية والتربوية ،على امتداد الموسم الدراسي – وقبله-لكنها لا تستحضر أن لها ،أيضا، مسؤولية معرفية عليا ،تسمو عن المدرسي المحدود.
إن تأهيل التلميذ ليكون قارئا مدى الحياة ،يختلف عن مجرد تأهيله لاجتياز الامتحانات بنجاح.
إن منظومتنا التربوية الحالية مثقلة جدا بكل ما يخص إدارة التعلمات،وضبط الزمن المدرسي ،وتحقيق المخرجات المسطرة في الغايات والأهداف ؛إداريا هذا مهم إذا تحقق فعلا ؛لكنه يظل بعيدا عن تحقيق الغاية القصوى من التعليم:
تأهيل التلميذ والطالب لتمثل المعرفة،واعتبار طلبها مدرسة لا تبدأ مع شتنبر وتقفل في يونيه؛بل تشتغل مدى الحياة.
المؤسسة المِحرقة:
تنهي مؤسساتنا التعليمية سنتها الدراسية على وقع النتائج،ومحاضر الخروج ،والانتقالات،،ورتوشات الخريطة المدرسية استعدادا للموسم القادم.
هكذا يمضي زمننا التربوي، مستنسخا آليات اشتغاله ،ومكررا نفس مخرجاته :
تلاميذ ناجحون مدرسيا فقط ؛لم يختبرهم أحد في المعرفة العامة،ولم يقس أحد تمثلهم لها وحبهم.
شخصان يعرفان ما يجري حقيقة:
بائع الزريعة الذي يقايضهم دفاترهم وأوراقهم ؛وكتبي الرصيف الذي تفد عليه المعارف المدرسية ،المتخلص منها،أرتالا أرتالا.
إن النجاح بهذا المعنى هو حيازة الحق في الإسراع إلى التخلص من « أوزار » سنة دراسية حبلى فروضا وامتحاناتٍ .
أمع هكذا مخرجاتٍ ، يحق لنا أن نتعجب من كون أغلب تلامذتنا لايجلسون للكتاب أبدا؛وكأنه ذاك المدرس القاسي الذي يصرخ في وجوههم دوما؛أو تلك الفروض التي لا تنتهي عقابيلها ؟
وهل يحق لنا أن نستغرب الحصيلة الفردية القرائية الفاضحة؟: أربع دقائق في العام(العالم العربي).
إن التعليم الذي يعزل المعرفة المدرسية عن المعرفة العامة/العالمة ،تعليم معكوس ،منقلب على غاياته وأهدافه.
والمؤسسة التي لاتبني جسورا بينها وبين المجتمع ؛معرفة،ثقافة ،وتنمية ؛يمكن اعتبارها محرقة للطاقات والمواهب ،لا تتصاعد منها غير الأدخنة الخانقة للنمو والتطور.
المشروع الاقرائي:
إسهاما في تصحيح هذا الاختلال الجوهري ،وهو مكلف جدا ماديا وتنمويا؛أتصور أن نستلهم من مناهجنا التعليمية العتيقة جدا ديناميتها الاقرائية التي أثبتت غبر القرون فعاليتها؛ وفي نفس الوقت نيمم شطر الثورة الرقمية الحالية – الداتا- التي فتحت لنا كل آفاق المعرفة؛حيثما كنا ؛دون ضرب أكباد الإبل طلبا للعلم،كما هو دَيدنُ الأقدمين.
إن أغلب التعليم العتيق بجامعات الأمة العربية و الإسلامية ؛وخصوصا القرويين،ظل لقرون قائما على الكتب /المصادر ،وليس البرامج المفككة الأوصال.
يجلس العالم للكتاب –تفسيرا لغة فقها أدبا منطقا رياضيات طبا ..- ويتحلق حوله الطلاب ،لما بين يديه من كتاب ؛يقرأه ويقرئهم إياه؛وحوله يدور النقاش ،إلى أن يتقرر الارتقاء إلى الأعلى ،في تلكم الحلقة أو غيرها ؛وهكذا دواليك .
حلقات علم محيطة بكتب ،وبأعمدة علمية وكراسي يتعهدها مال الوقف والمحسنين.
بوسع الطالب أن يُجاز ويتخرج عالما يجلس بدوره إلى عمود وكتاب ؛وبوسعه أن يظل طالبا دوما. لانهاية للكمال ،ولا حدود للفضيلة والعلم.
تأسيسا على هذا أتصور أن تُعد مؤسساتنا التعليمية ،في مستهل السنة الدراسية،مشروعا أقرائيا ،مندمجا عضويا في النشاط الدراسي العام ؛وليس مجرد هامش اختياري ،أو خزانة كتب باردة وفقيرة ،يتجنبها الجميع.
يتواضع أساتذة المواد على مجموعة من الكتب،الورقية أو الرقمية -حسب التخصصات- تشتغل عليها المؤسسة على مدار السنة؛سواء ضمن الحصص المدرسية أو من ضمن الأنشطة الثقافية الموازية.
على أن يكون كل الطاقم المؤسسي –الإداري والتربوي- معنيا بهذا المشروع ،الذي يكتسب الرسمية ،بعرضه على المديريات الإقليمية والأكاديميات.
تنصب جهود التأطير على جعل المشروع مُعززا للمعرفة المدرسية ،وموسعا لها ؛لكن الأهم جدا أن يدفع بالتلاميذ صوب تمثل المعرفة عموما ،وترسيخ القراءة عادة دائمة لا تقتلها الدروس والفروض والامتحانات.
الأبواب المفتوحة:
إذا كانت المعرفة المدرسية تُغلِق المؤسسة ،على من فيها من تلاميذ وأساتذة وطاقم إداري ؛فان المشروع الاقرائي يفتحها في وجه الجسم المعرفي والثقافي والفني للوطن ؛سواء بحضور المؤلفين شخصيا –حسب الممكن- أو من يتولى العرض والشرح والنقد.
ويفتحها في وجه أمهات وآباء وأولياء التلاميذ ؛لانفتاحه –خلافا للمعرفة المدرسية- حتى على اهتماماتهم .
وحبذا لو كان لهؤلاء إسهام في اختيار الكتب ؛خصوصا وهم مطالبون أسريا بتوفير بيئة قرائية لأبنائهم ،تحببهم في الكتب ،وتحفزهم في الانخراط في المشروع القرائي للمؤسسة.
وكل هذا يتطلب ،طبعا،برنامجا مفصلا ودقيقا للتنزيل على مدار السنة.
القيمة المضافة للمشروع:
إن اشتغال المؤسسة التعليمية في اتجاهين :المدرسي المحدود،والمعرفي اللامحدود؛سيجعل منها مؤسستين في واحدة؛تتكاملان في تخريج الطالب المواطن ، الذي يدمن القراءة أنى تواجد،ولو واقفا في حافلة ؛كما في الدول ذات الأنظمة التربوية الراقية والفعالة.
مع هذا سينتهي كساد الكِتاب ،وفقر الكُتاب ،وستتحرك على مدار الزمن آليات الطبع والنشر والتوزيع.
سيتأسس المجتمع القارئ ؛وهو قوام نجاح التجربة الديمقراطية ،وكل المشاريع التنموية.
إن المجتمع الذي لا يقرأ أعمى ،يخبط خبط عشواء؛ولا يفيد في شيء أن تكون هناك فقط نخبة مبصرة ،وقائدة.
لم تعد الأمم تهزم سيفا وقتالا؛بل علما وقراءة.
Aucun commentaire