التعامل مع وسائل التواصل والاتصال مسؤولية فردية لا دخل للآخر فيها
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي
التعامل مع وسائل التواصل والاتصال مسؤولية فردية لا دخل للآخر فيها
عندما نبحث في تطور* المجتمعات نجد أنه مقرونٌ بتغيُّر مزدوج، أحدهما يتعلق بالجانب المادي والآخر يتعلق بالجانب المعنوي، وأقصد به الجوانب الفكرية والثقافية وما تستتبعها من سلوكات بشرية، مع وجود علاقة تأثير متبادلة فيما بينهما، فاختراع المطبعة على سبيل المثال جاء ضمن سياق معنوي معين، ما لبث أن تغير بفعل هذا الاختراع الذي أعقبته اختراعات أخرى، أثمرت تغيرات متتالية ومتداخلة بين الجانبين على شكل تفاعلات تسلسلية (Réactions en chaine). والتاريخ يخبرنا أن طبيعة التفاعل بين المادي والمعنوي يؤدي إما إلى ممارسات إيجابية أو إلى أخرى سلبية أو هما معا. ذلك أنه ليس من الصعب على كل من يرغب في ذلك رصد كيف تفاعلت ثقافات معينة مع عدد من الاختراعات المادية للمساهمة في رفاهية الإنسان بصفة عامة، في الوقت الذي كان فيه تفاعل ثقافات أخرى مع اختراعات أخرى سببا في تدمير حضارات بكاملها.
في هذا المقال أريد أن أسلط الضوء على تأثير الاختراع المادي المتمثل في وسائل التواصل والاتصال المعتمِدة على الأنترنيت بمختلف أنواعها وتجلياتها على السلوك البشري.
وإذا انطلقنا من مسلمةِ أبَدِيَّةِ الصراع بين الخير والشر، سَهُل علينا أن نفهم بأن استغلال هذه الوسائل شأنها شأن أية وسيلة مادية لا يمكن أن يخرج عن أحد الاستعمالين إما في الخير أو في الشر، واعتبارا لكون مفهوما الخير والشر يختلفان باختلاف المجتمعات وثقافاتها، فسأكتفي بإلقاء نظرة، قد تكون مبسطة، على مدى تأثيره في المجتمعات العربية والإسلامية عموما وفي المجتمع المغربي خصوصا في الاتجاه الإيجابي أو السلبي. فالغالب على تقييم الناس، وعلى رأسهم مثقفين ودُعاة، لوسائل التواصل الاجتماعي هو تقييم سلبي، ومن ثم يتم تحميلها مسؤولية الانحرافات الملاحظة على سلوك الناس بصفة عامة وسلوك الشباب بالخصوص. ونظرا لإمكانية تحول هذا النوع من الحُكم إلى ذريعة للتهرب من المسؤولية، كان لا بد من تدقيق النظر في الموضوع من خلال التساؤل عما إذا كانت السلبيات الملاحظة مرتبطة بطبيعة الوسيلة في حد ذاتها أم بكفية استعمالها؟ الأمر الذي يتطلب فحص شِقَّيِ السؤال بمعزل عن بعضهما.
ففيما يتعلق بالشق الأول وبما أن هذه الوسائل لا تعدو أن تكون مصادر للمعلومات بغض النظر عن طبيعتها، فإنها لا تختلف من حيث المبدأ ومن حيث الوظيفة عن المصادر التي سبقتها، سواء تعلق الأمر بالتواصل المباشر بين الناس بصفة عامة أو عن طريق وسائطَ كالكتب والمجلات وغيرها مما سبق عصر الأنترنيت، وإنما الاختلاف وقع في الكمية الهائلة من المعلومات المتاحة والسرعة الفائقة في الحصول عليها أو تبادلها مع أكبر عدد من الراغبين فيها، ففي الوقت الذي كان التواصل مع قريبٍ في بلاد المهجر على سبيل المثال يدوم أسابيع أو أكثر عن طريق البريد العادي، فقد أصبح اليوم آنيا ومدعما بالصوت والصورة. من هنا نلاحظ أن إيصال المعلومة كانت ولا تزال هي الوظيفة الأساس لهذه الوسائل، مع العلم أن أثر هذه المعلومة قد يكون إيجابيا أو سلبيا اليوم كما في السابق، لكن تَدَخُّل عامل السرعة وبروز قوالب مُبتكَرة لتسويقها سهَّل من عملية تداولها والإقبال عليها بشكل روتيني وصل إلى حد الإدمان عند كثير من مستعملي هذه الوسائل.
ويُستشف من هذا أن الأمر كل الأمر رهين بكيفية الاستعمال، فاستعمال هذه الوسائل كما السكين يتأرجح بين المنفعة والإذاية، وذلك في علاقة وثيقة بأهداف صاحب المعلومة أو صانع المحتوى الذي يمكن له، بغض النظر عن كونه فردا أو جماعة، أو نظاما…أن يقدم مضونا مجانيا أو مؤدى عنه، نافعا أو ضارا مقارنة مع الهدف المتوخى، هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن المنفعة أو الإذاية التي تستهدف المستهلِك لا يمكن أن تحصل دون رغبة منه، وذلك من خلال كيفية تعامله مع هذا المضمون. وهنا مَكمن الخلل بحيث تتدخل في حسن استعمال هذه الوسائل مجموعة من الشروط التي يتعين أن يكون الحد الأدنى منها معلوما بالضرورة لدى المستهلك، وهو الأمر الذي يبرهن الواقع على عدم حصوله لدى جل المستهدفين خاصة وأن أغلبهم أميين ومستلبين في الوقت نفسه، مما يحول دون تمييزهم الصالح من الطالح، وقد يهون الأمر لو انحصر لدى الأميين فقط، بل تجاوزهم لِيَعُمَّ مجموعة من المحسوبين على الطبقة المثقفة وحتى بعض الدعاة الذين يقضون أوقاتا معتبرة وهم يطوفون في رحاب المَاجَرَيَات نسبة إلى ما جرى من أحداث على حد تعبير إبراهيم السكران.
صحيح أن المستفيدين الحقيقيين من هذه الوسائل لا يدَّخرون جهدا لتمرير ثقافتهم وأفكارهم وتسويقها في قوالب جذابة من قبيل حقوق الإنسان وما ينبثق عنها، مع العلم أن مجرد الاطلاع عليها يُظهر أن مضمونها لا يتناسب مع قيمنا وثقافتنا، وصحيح كذلك أنه في المقابل تتضمن هذه الوسائل كنوزا يمكن استخراجها بنقرة زر واحدة، إلا أن المعادلة الصعبة هي كيفية المرور إلى هذه الكنوز وتخطي إغراءات المحتوى الرديء والضار الذي يَبتذِلُ الوقت ابتذالا. وإذا وعَيْنا أن أغلى ما يملكه الإنسان هو وقته، عَلِمْنا أن رِبح هذا الرهان أمرٌ فَصلٌ وليس بالهزل، لكون الإنسان عبارة عن أيام مجموعة، حسب تعبير الحسن البصري حين قال: « يا ابن آدم، إنما أنت أيام مجموعة، كلما ذهب يومٌ ذهب بعضك »، وإذا تَيَقَّنا من هذا الأمر وأن كل يوم يمضي بل كل ثانية تمضي لن تعود، أحسسنا بأهمية حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بخصوص عدم إضاعة الفرص التي تأتي ثم تنقضي فجأة بدون رجعة حين قال: « اغْتَنِمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: شبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناءكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَراغَكَ قبلَ شُغلِكَ، وحياتَكَ قبلَ موتِكَ »
من هنا يتضح أنه كلما أسرع الإنسان بتقوية مناعته تجاه استغلال هذه الوسائل بما يضمن له عدم تبذير وقته في التفاهات، كلما ضمن لنفسه إمكانية صرف هذه العملة فيما يعود عليه بالنفع في الدنيا والآخرة، وهذا لا يمكن أن يتأتى له إلا بتحصين نفسه بتحديد مشروع حياته من خلال برنامج دقيق إن على المستوى القريب (برنامج اليوم أو الأسبوع) أو على المستوى المتوسط والبعيد (الشهر والسنة)، وإلا ندم حيث لا ينفع الندم، حيث يتبرأ منه الشيطان بقوله كما جاء في الآية 22 من سورة إبراهيم: « وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ » ويُحشر مع الذين قال فيهم الله سبحانه وتعالى في الآية 37 من سورة فاطر: « وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ »
ختاما ما من شك في أن مسؤولية تدبير الإنسان لأمور حياته بصفة عامة، وكيفية تدبيره للوقت الذي يصرفه في تعامله مع وسائل التواصل الاجتماعي بصفة خاصة، مسؤولية فردية ولا يمكن بحال من الأحوال إقحام أي كان فيها، علما أن شيء من هذا القبيل تمت الإشارة إليه في سورة سبأ : » وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ » فليتحمل كل واحد منا مسؤوليته كاملة حتى لا يندم يوم لا ينفع الندم.
* بالمعنى اللغوي لا المعنى الدارويني
Aucun commentaire