Home»Débats»العلم والجهل أية علاقة؟

العلم والجهل أية علاقة؟

0
Shares
PinterestGoogle+

بسم الله الرحمن الرحيم

الحسن جرودي

العلم والجهل أية علاقة؟

هل توجد علاقة بين العلم والجهل؟ قد يبدو السؤال غريبا لأول وهلة وربما ساذجا، لأن العلم علم والجهل جهل، إلا أن إعادة التفكير في الأمر قد يجعل السؤال ذو معنى، إذا علمنا أن التاريخ قد كشف لنا عن حالات كثيرة أصبح فيها ما كان يُعتبر علما في وقت من الأوقات جهلا، كما هو الشأن على سبيل المثال بالنسبة للنظرية التي كانت تَعتبر أن الأرض ثابتة ومسطحة ومركزا للكون، لتتحول من علم إلى جهل عندما تمت البرهنة على أن الأرض كروية الشكل وأنها تتحرك في مسار معين حول الشمس وحول أجرام أخرى، مع العلم أن ما أصبح علما كان يُنعت بالجهل، مما يمكن معه القول بوجود علاقة تَدافع وتناقض بينهما على غرار علاقة التدافع والتناقض بين الخير والشر، ذلك أنه كلما انتشر وعَمَّ أحدهما توارى الآخر.

 ومما ينبغي الإشارة إليه هو أن الجهل أصل في الإنسان مصداقا لقوله تعالى في الآية 72 من سورة الأحزاب: « إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا »  بينما العلم حادِث لكون الأول لا يحتاج إلى بذل مجهود، بينما يحتاج الثاني إلى بذل الوسع في تقليب الأمور ودراستها، ومع ذلك فمهما بلغ علم الإنسان فإن صفة الجهل تبقى ملازمة له، لأن نصيبه من العلم محدود مصداقا لقوله تعالى: « وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا » الآية 85 من سورة الإسراء. وهو ما عبر عنه الشاعر في البيت التالي: فقل لمن يدعى في العلم فلسفة   حفظت شيئا وغابت عنك أشياء

وبما أن العلم ضروري للحياتين الدنيا والآخرة، فإن الإنسان مُطالب بتضييق دائرة جهله وتوسيع دائرة علمه الذي لا يتأتى إلا بالتعلم، لينقسم الناس في ذلك إلى فريقين، فريق يتعلم من أجل آخرته، لذلك فهو يجمع، بسبب تكاملهما، بين العلم الشرعي والعلم الدنيوي، عسى أن تكون دراسته وتدبره للكتابين المقروء والمنظور سببا في إدراجه في زمرة الذين يخشون ربهم مصداقا لقول الله تعالى  » …إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ… » من الآية 28 من سورة الإسراء، وفريق يتعلم من أجل دنياه دون آخرته مما يجعله ينصرف إلى دراسة علوم المادة بمختلف أصنافها في نفس الوقت الذي لا يَغفُل فيه عن باقي العلوم مع اختلافه مع الفريق الأول في الغاية، لكونه يركز على الكسب المادي وعلى السيطرة المادية والقيمية على الشعوب والأمم، وهو الأمر الذي لا يمكن لعاقل أن ينكره انطلاقا من الواقع المعيش. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو إلى أي مدى بقي العلم مناقضا للجهل؟ وما طبيعة التدافع بينهما، هل لا زال العلم يهدف إلى محاربة الجهل والقضاء عليه، أم أنه أصبح منحازا لأجندات معينة تعمل على سيادة الجهل وسيطرته.

مما لا شك فيه أن هناك حقائق علمية لا يمكن للجهل أن يخالطها أو يؤثر فيها، غير أنه أصبح غير خاف على كل متتبع للشأن العالمي أن العِلم أصبح وسيلة لخدمة مشاريع تجارية وسياسية وإيديولوجية… من خلال ما أصبح يطلق عليه اسم صناعة الجهل. ولعل من بين أهم المراحل التي أصَّلت لهذه الصناعة مرحلة استغلال العلم في الدفاع عن التدخين من قبل شركات التبغ في الخمسينات، ذلك أنه بعد صدور دراسة تبين اقتران التدخين بالسرطان سنة 1953، اجتمع رؤساء الشركات الكبرى للتبغ وأعلنوا أنهم سيعملون على تقديم العون للجهود البحثية حول تعاطي التبغ وعلاقته بالصحة، وهو ما نشرته الصحف تحت عنوان « قطاع التبغ سيمارس البحث العلمي » وهو عنوان ظاهره دعم البحث العلمي لصالح صحة المدخنين، فيما يروم باطنه التشكيك بهذه الدراسة ودحض الحقائق التي أثبتتها، من خلال التركيز على الأبحاث المسماة بالأبحاث المشتِّتَة للانتباه حيث تتم التغطية على الأمر وزرع الارتباك بغزارة البيانات التي تنطلق من فرضية تعدد الأسباب، ليتم بذلك تجنيد العلم لتقويض العلم نفسه ونشر الجهل. أنظر وثائقيا تحت عنوان صناعة الجهل على الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=iM7xvoC_-WM

توالت بعد ذلك الأبحاث التي تُمولها الجهات التي تتضرر بالنتائج العلمية الرصينة بسخاء، فهذا مثال للدراسات التي تشكك في أضرار المبيدات الحشرية حتى لا يُمنع استعمالها، وذاك مثال الشذوذ الجنسي الذي تم التمهيد له بتسميته بالمثلية ثم إسناده بدراسات « علمية » تقول بوجود جينات مسؤولة عن الميول الجنسي للإنسان، ليتم البناء عليها في استصدار قوانين على مستوى الأمم المتحدة تُجرِّم كل من يشكك في هذه الدراسات، أو اعتبر أن الشذوذ مرض نفسي يمكن معالجته، كما فعل البروفيسور Robert Spitzer الذي عالج مجموعة من مرضاه باعتماد علاج نفسي محض، والذي اضطر بعد الضغط عليه  إلى الاعتذار عن وصف الشذوذ بالمرض رغم النتائج القيمة التي حصل عليها (انظر فيديو تحت عنوان: تزييف العلم – الشذوذ الجنسي و التلاعب بالعلم: على الرابط التالي: ttps://www.youtube.com/watch?v=x_imRyT3af4

إن صناعة الجهل أصبحت علما قائما بذاته، يتم اللجوء إليه كلما دعت الضرورة لذلك، حيث يتم زرع الشك والارتباك تجاه حقائق علمية أو عقدية لا تخدم جهة معينة، فوباء كورونا ليس عنا ببعيد، بحيث عايشنا كيف كانت تتوالى التصريحات والتصريحات المضادة من قبل مختصين، ثم دراسة ودراسة مضادة، حتى غابت الحقيقة التي لا شك أن هناك من استفاد بغيابها ولا زال. والأمر نفسه أصبح باديا للعيان حتى فيما يتعلق بالتعامل مع الحقائق الشرعية والثوابت الدينية، بحيث أصبح يُعتمد العلم الشرعي لضرب العلم الشرعي، فهذا يحلل وذاك يحرم، وهذا يبيح وذاك يكرِّه، بل هناك من يعتمد آراء « علمية » لضرب المحكم من القرآن.

في الأخير يبدو أن مصالح فئات معينة لها ارتباط وثيق بسيادة الجهل، وهو ما يبرر لجوئهم إلى العلم للتشويش على العلم نفسه. وفي هذا مزيد من الصعوبة في تحصيل العلم الرصين الذي يهدف إلى مصلحة الإنسانية في شموليتها لا إلى مصلحة أفراد أو لوبيات بعينها. ولا نملك إلا أن نستعيذ من علم التجهيل، وندعو بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولنا: اللَّهُمَّ نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَضِلَّ أَوْ نُضَلَّ أَوْ نَزِلَّ أَوْ نُزَلَّ أَوْ نَظْلِمَ أَوْ نُظْلَمَ أَوْ نَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَينا.

الحسن جرودي

MédiocreMoyenBienTrès bienExcellent
Loading...

Aucun commentaire

Commenter l'article

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *