من توحيد خطبة الجمعة وتعميمها إلى إلغائها
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسن جرودي
من توحيد خطبة الجمعة وتعميمها إلى إلغائها
اعتدنا في كثيرمن خطب الجمعة التي تُلقى في بعض المناسبات الوطنية أو غيرها من المناسبات، أن يُخبرنا الخطيب بأن الخطبة واردة من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ثم يقوم بتلاوتها مستعملا كل أساليب الإلقاء التي في جعبته ليبلِّغنا مضمونها. وخلافا لهذه العادة التي كانت منتظرة هذه الجمعة بسبب الترويج، على مواقع التواصل الاجتماعي، لخطبة من إعداد وزارة الأوقاف موضوعها: خطبة موحدة حول نعمة الماء، تفاجأت على غرار كثير من المصلين بغياب هذا التقديم، وبخطبة ذات موضوع مختلف تماما عن الموضوع المرتقب بالنسبة للخطبتين معا، وخرجت من المسجد وأنا أتساءل عن سبب هذا التغيير، هل فعلا كانت هناك خطبة موحدة أم أنه تم انتحالها على الرغم من تذييلها بخاتم وتوقيع السيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق، وبقي التساؤل يلازمني إلى أن عثرت بالصدفة على مقال في إحدى الجرائد الإلكترونية الذائعة الانتشار تحت عنوان « الأوقاف تلغي خطبة موحدة حول نعمة الماء » دون تحديد الأسباب التي كانت وراء الإلغاء، سوى الإشارة إلى ما ورد في تقديمها بخصوص حث الخطباء على وجوب التقيد بها وعدم التصرف فيها، ثم إلى توصل الخطباء مساء يوم الخميس بإخبار يتعلق بإلقاء خطبهم الخاصة وعدم إلقاء الخطبة الموحدة.
ونظرا للأهمية التي يكتسيها الموضوع، ونظرا للتعامل المذبذب للوزارة المعنية معه، راودتني مجموعة من الأفكار أردت أن أتقاسمها مع القراء الكرام من خلال 3 زوايا:
الأولى تتعلق بالإخبار والإخبار المضاد، والنتائج التي يمكن أن تتمخض عنه في حالة ما إذا تكرر الأمر، بحيث يتعين على الوزارة الموقرة أن تعلم أن الخطباء ليسوا كلهم على نفس المستوى من العلم ولا التفرغ لتحضير خطبهم حتى تمكنهم من خطبة ثم تسحبها منهم في آخر لحظة، وتدعوهم لتحضير خطبة جديدة في وقت قياسي. وهذا يعني إما أن يتم اللجوء إلى خطبة من الخطب المستهلكة التي تعج بها الأنترنيت، أو تحضير خطبة مرتجلة غالبا ما لا تكون في المستوى المطلوب باستثناء أولئك المتمرسين ذوي الكفاءة العالية في الخطابة، وهو ما لا يتيسر لكل الخطباء. والنتيجة في الحالتين واحدة، وهي تذمر الحضور والانتقاص من مصداقية الخطيب، وربما انتفاء الثقة بين الطرفين لتصبح صلاة الجمعة عبارة عن مسرحية شكلية على حساب المضمون. وإذا حصل لا قدر الله أن فقد المصلون الثقة بالخطباء فلا السلهام ولا الجلباب ولا حتى رابطة العنق تفيد في إعادة هذه الثقة من جديد.
الثانية تتعلق بالخطبة الموحدة في حد ذاتها دون الدخول في مناقشة مضمونها تاركا ذلك لأهل الاختصاص، لكني أعلم أن توحيد الخطاب بصفة عامة (لا أقول الموضوع) يقتضي تجانس المخاطَبين من حيث المستوى العلمي، ومن حيث البيئة والوسط الذي يعيشون فيه إلى غير ذلك من المعطيات التي يتعين على المخاطِب بصفة عامة وعلى الخطيب بصفة خاصة الإلمام بها حتى تؤتي عملية التواصل أكلها. وبما أن مواضيع الخطب الموحدة تتعدد بتعدد المناسبات الوطنية والدينية والعالمية وغيرها، فسنأخذ خطبة نعمة الماء نموذجا لطرح مجموعة من التساؤلات التي يمكن تعميمها على باقي الخطب:
- إذا كان بإمكان الخطيب أن يختار لخطبته موضوعا ملائما لسياق رواد المسجد الذي يخطب فيه ويحظِّره في ضرف وجيز من ليلة الجمعة، ألا يمكن له أن يحضِّر خطبة في موضوع الماء أو أي موضوع يستأثر بالاهتمام، بما يتناسب والسياق الذي يتواجد فيه إذا أُخبر بذلك بوقت كاف دون اعتماد عنصر المباغتة الذي تتميز به العواصف الرعدية مع العلم أنها أصبحت قابلة للتوقع؟
- إن التأكيد على عدم التصرف في موضوع الخطبة يدل إما على عدم الثقة في الخطباء من حيث الالتزام بالموضوع وإما عدم الثقة في قدراتهم الخطابية لتناول موضوع معين، وهذا ما استبعده لأنه لو كان الأمر كذلك لكان بالنسبة لخطب السنة التي يتم التطرق فيها لمواضيع حساسة لا يُستأمن عليها إلا قوي أمين.
- إن إيصال الخطاب إلى فئة معينة من الناس وتَبْيِينِهِ لهم يقتضي أن يكون بلسانهم مصداقا لقوله تعالى في الآية 4 من سورة إبراهيم « وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ » ونحن نعلم أن في المدينة الواحدة يختلف الخطاب من مسجد لآخر. فالخطاب الموجه لعلية القوم ليس هو الخطاب الموجه لسكان الأحياء الهامشية، وهذا مما يدفع بالخطباء الحريصين على تبليغ مضمون خطبتهم إلى وضعها في قالبٍ أو شكلٍ يتناسب مع الفئة الغالبة من حيث التجانس الفكري والاجتماعي، وهو الأمر الذي غالبا ما يكون سببا في انتقال بعض أفراد الفئة الأقل تجانسا من المسجد المجاور إلى مسجد أكثر بعدا حتى وإن كان موضوع الخطبة واحدا. إذا كان هذا يقع على مستوى المدينة الواحدة فكيف يكون الأمر بالنسبة لجهات المغرب التي يميزها التنوع من حيث الثقافة والعادات ومن حيث المستوى التعليمي ومن حيث الجانب المادي والوسائل المعيشية…من هنا لا يمكن أن نخاطب الذين يتوفرون على حدائق ومسابح داخل منازلهم الفخمة، والذين يقطعون مسافات طويلة لجلب شربة ماء قد لا تكون صالحة للشرب ولا حتى للسقي بنفس الخطاب. ويذكرني هذا بقصة حكاها لي أحد الإخوة حضر خطبة جمعة بأحد المساجد شبه القروية لا تحضره النساء أصلا في الوقت الذي كان فيه جزء من الخطبة موجه إليهن.
الزاوية الثالثة تتعلق بالأسباب التي أدت إلى التراجع عن الخطبة. في الحقيقة لم أجد سببا معينا لهذا التراجع، ذلك لأنه لا السدود امتلأت ولا المسابح أُغلقت ولا المغاربة استغنوا عن الحمامات ولا… مما دفعني إلى تصور بعض الافتراضات من بينها:
- أن الوزارة تذكرت في آخر لحظة أن خطاب الحفاظ على نعمة الماء وعدم التبذير بصفة عامة لا ينبغي أن يوجه أصلا للمسلمين الذين يقيمون الصلاة ويحضُرون الجُمع، لأنه يُفترض فيهم أنهم على علم بقول الله عز وجل في الآية 31 من سورة الأعراف: « وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وبقوله جل جلاله في الآية27 من سورة الإسراء : » إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا » ، كما يُفترض فيهم أن يعلموا من سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتوضأ ويغتسل بالحد الأدنى من الماء، كما ورد عن أَنَسٍ رضي الله عنه حيث قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ، إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، وكما جاء في حديثه صلى الله عليه وسلم عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال: ما هذا السرف؟ فقال: أفي الوضوء إسراف؟ قال: نعم وإن كنت على نهر جار. إذا كان هذا هو الافتراض الذي انطلقت منه الوزارة، فبالفعل لا ينبغي أن يوجه الخطاب للمصلين بقدر ما يتعين توجيهه إلى أولئك الذين لا يحضرون الجُمع أو لا يصلون أصلا، وإلى الذين يصنفون أنفسهم ضمن الأقليات لأنهم لا يمتلكون الوازع الديني الذي يحضهم على عدم التبذير وعدم الإسراف.
- أن الوزارة علمت أن المسلمين عامة والمصلين خاصة لا يقرؤون القرآن وإذا قرؤوه لا يفهموه ولا يفقهوه، وهو ما ينطبق على خطب الجمعة إذا صح الافتراض، وأعتقد شخصيا أن الأمر لا يخلو من صحة، ومن ثم فلا فائدة من الخطبة الموحدة، ليُترك الأمر للخطباء لتدبير شأنهم كما العادة مع الحرص على التزامهم بعدم الخوض في الأمور التي « لا تهمهم ». والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن ضمن هذا الافتراض الذي أجزم أن فيه كثيرا من الصحة، لماذا لا يقرأ المغاربة والمصلون منهم على الخصوص قرآنهم وسنة نبيهم، وإذا فعلوا لا يستوعبونهما؟ الإجابة المنطقية تكمن في أن لكل صنعة مفاتيحها ووسائلها، ومفتاح استيعاب مضامين القرآن والسنة النبوية يتجلى في إتقان اللغة العربية من جهة وتدريس القرآن وعلومه والسنة النبوية في مختلف مستويات الدراسة مع التركيز على حفظ القرآن باعتماد مبدأ التدرج وليس العكس، فعندما يطالب تلاميذ السنة الأولى بكالوريا على سبيل المثال بحفظ سورة يوسف ذات 111 آية فإن ذلك يعتبر لدى عديد منهم مثبطا للحفظ، خاصة الذين لم يتدربوا على حفظ القرآن في المساجد، كما أن حذف درس الإرث من نفس المستوى يؤدي إلى الجهل بأحكام الشريعة في الموضوع، هذا في الوقت الذي يبالغ فيه في الأهمية التي تعطى للغة الفرنسية ضدا على الدستور الذي لا يعترف بها في الوقت الذي يقر بالعربية لغة رسمية للبلاد وبالقرآن دينا الدولة.
في الختام أقول بأن الخطب ذات الموضوع المشترك ضرورية عندما يتعلق الأمر بمصير الأمة، شريطة أن تعطى الحرية للخطيب، الذي ينبغي أن تتوفر فيه مجموعة من المواصفات التي تمكنه من إتقان خطبته ونسجها حسب السياق والحيثيات التي يتواجد فيها. ومن المواضيع الملحة التي يتعين التطرق إليها في أرجاء المغرب كلها وذلك حسب خصوصيات كل منطقة، تلك التي تتعلق بمعالجة الاختلالات التي تنتج عن الترويج للحرية الجنسية والمثلية والرضائية وغيرها من المواضيع التي أصبحت تحاصر شبابنا دون أن تكون لهم الحصانة الكافية لمحاربتها. وحتى تؤتي هذه الخطب أكلها فلابد في المقام الأول أن يَسترجع المسجد دوره التربوي الذي كان منوطا به قبل الاستعمار وأن يُسنَد في ذلك من جميع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية ابتداء من المدرسة التي يتعين أن تصاغ برامجها بما يمكِّن المتعلم من إتقان اللغة العربية ومن اكتساب الحد الأدنى من الثقافة الدينية التي تساعده على استيعاب النص القرآني والحديثي وتجسيده على أرض الواقع، مرورا بالإذاعة والتلفزة التي يتعين أن تترفع عن التفاهة وثقافة التسطيح وصولا إلى جمعيات المجتمع المدني الجادة التي لا تطلب أكثر من الالتزام بمقتضيات الدستور الذي ينص على أن الإسلام دين الدولة.
Aucun commentaire