الاهتمام الأكاديمي في غياب الموضوعية وانعدام النزاهة الفكرية الدكتور محمد الشرقاوي نموذجا
تميزت مواقف الدكتور محمد الشرقاوي من المستجدات الأخيرة المتعلقة بقضايانا الوطنية، وعلى رأسها قضية وحدتنا الترابية، بسلبية وتبخيس لكل المكتسبات. فبعد اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية الصحراء، انضم إلى جوقة المشككين في القرار الأمريكي وانحاز للأطراف التي كانت تراهن على أن يراجع « بايدن » القرار الذي اتخذه سلفه في نهاية ولايته. وللترويج لشكوكه، فقد أدمن الحضور في وسائل الإعلام (قنوات تلفزية، مواقع إليكترونية، شبكات اجتماعية…). لكن الإدارة الأمريكية الجديدة خيَّبت آمال الشرقاوي وأمثاله حين ألقت بتخميناتهم وتوقعاتهم في سلة المهملات.
ولم يكتف الشرقاوي بموقفه السلبي تجاه القضية الأولى للمغاربة (قضية الوحدة الترابية)؛ بل يتبنى، وبكل وقاحة، الطرح الإسباني في الأزمة الديبلوماسية الأخيرة مع المغرب؛ فإسبانيا حاولت التملص من السبب الحقيقي للأزمة الديبلوماسية بين البلدين بادعائها أن موضوع الهجرة هو السبب؛ وهذا ما يتبناه الشرقاوي في تدوينة له على الفايسبوك (صفحة د. محمد الشرقاوي) بتاريخ 10 يونيو 2021 (في الساعة السابعة إلا أربع دقائق) بعنوان » من يتحمّل المسؤولية في الرباط عن المطبّة الجديدة: » # على_أهلها_تجني_براقش »؟. وإذا كان هذا العنوان حمَّالا للنُّزوع نحو التشفي والتحامل على الديبلوماسية المغربية، فإن صاحبه لا يتورع عن اتهام هذه الديبلوماسية بافتعال سياسات تصعيدية تجاه أوروبا في شخص ألمانيا وإسبانيا والاتحاد الأوروبي؛ وكأني به يريد من المغرب أن يقبل بالوصاية الاستعمارية التي تَكَشَّفت لدى الحكومة الإسبانية وبعض الدول الأوروبية.
ومن يقرأ التدوينة المذكورة يكتشف أنها مليئة بالمغالطات، وكلها تصب في اتجاه تحميل المغرب مسؤولية الأزمة الأخيرة مع إسبانيا. وهذا ما سعت وتسعى إليه هذه الدولة التي يحن بعض أحزابها ومسؤوليها إلى عهد فرانكو. ورغم أن الحقيقة ساطعة، فإن إسبانيا تتهرب من الأسباب الحقيقية للأزمة، وذلك بإقحام البرلمان الأوروبي في توظيف مكشوف لموضوع الهجرة الذي لم يكن أبدا سبب اندلاع الأزمة. لكن الشرقاوي يتجاهل كل هذا؛ مما يؤكد تبنيه للطرح الإسباني، كما أسلفنا؛ وهو طرح مغلوط ومغرض.
وحتى يدرك القارئ مدى تحيز الشرقاوي لأعداء الوطن، نشير إلى أنه استعمل في تدوينته عبارة « إدانة المغرب » من طرف البرلمان الأوروبي؛ في حين أن قرار هذا الأخير لا يدين المغرب، ولم تتمكن إسبانيا من وصول هذا المبتغى رغم الضغط الذي مارسه نوابها بهذا البرلمان. إلى جانب ذلك، فقد حاول تضخيم موقف البرلمان الأوروبي ليجعل منه أزمة ثالثة يتسبب فيها المغرب مع الاتحاد الأوروبي إلى جانب الأزمة مع ألمانيا وإسبانيا. ويصف ذلك بسوء التقدير ليعطي لنفسه الحق في تقديم الدروس للدبلوماسية المغربية؛ وحسب ما أوردناه وما سنورده أسفله، فإن آخر شخص يمكن أن يقدم الدروس في هذا المجال وفي غيره، هو المدعو الدكتور محمد الشرقاوي الذي يفتقر إلى الحد الأدنى من النزاهة الفكرية والأخلاق العلمية.
وإذا كان الشرقاوي قد سجل بأن هناك أصوات من شتى التكتلات السياسية تدعو إلى معاقبة المغرب، فلم يشر إطلاقا إلى الأصوات التي تعالت في الاتحاد الأوروبي، وفي إسبانيا نفسها، دفاعا عن الموقف المغربي السليم الذي لم يُخل أبدا بالتزاماته تجاه شركائه؛ كما لم يشر إلى الورطة التي وقعت فيها إسبانيا بعد أن قبلت على نفسها المشاركة في التزوير والتستر على مجرم خطير مطلوب أمام العدالة الإسبانية؛ ناهيك عن التناقض الذي وقعت فيه بمحاربة الانفصال في بلادها وتشجيعه عند جيرانها. وقد كان للمخابرات والديبلوماسية المغربية دور كبير في تعرية سوءة إسبانيا أمام العالم. وهذا ما تجاهله الشرقاوي كليا.
باختصار شديد، إن الشرقاوي أعطى الدليل على أنه عديم الحس الوطني، وليس له أدنى ذرة من الغيرة الوطنية على مصالح بلاده؛ بل تراه يبحث عما يُبخِّس مجهودها بأسلوب أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه ليس بريئا. وربما لهذا السبب خاطبه المحلل السياسي، الأستاذ نوفل البعمري، في تفاعله مع إحدى تدويناته بالقول: » مبقيناش عارفيناك واش معارض سياسي او محلل سياسي او أكاديمي… لأن هذه الصفات الثلاث لا تلتقي، حتى نعرف كيف نناقشك ». ويضيف نفس الأستاذ، في جوابه على متفاعل آخر مع نفس التدوينة: « اختلافي مع الاستاذ الشرقاوي هو أنه تخلى عن دوره الأكاديمي وأصبح مثله مثل اي مدون فيسبوكي ».
وقد كان تفاعل الأستاذ نوفل البعمري بمثابة مُنبِّه (déclic) حفَّز على إخراج مقال جماعي من الدرج (tiroir)، تتجسد فيه طريقة الدكتور محمد الشرقاوي في التعاطي مع القضايا الأساسية والحساسة؛ وهي طريقة يغيب عنها المنهج العلمي والأكاديمي ويحضر فيها حشد من المفاهيم والمغالطات لجلب اهتمام القارئ واستدراجه إلى مخرجات « تحليله » الذي يصب في نهاية المطاف في مرمى خصوم قضايانا الوطنية.
المقال الجماعي المستخرج من الدرج، تم إنجازه من طرف الأساتذة عائشة زكري، محمد العبدلاوي ومحمد إنفي؛ غير أن بعض الظروف حالت دون نشره في حينه.
فكيف جاءت فكرة هذا المقال؟
لقد حدث أن تقاسمنا (partager) نحن الثلاثة – عبر الوسائط الحديثة للتواصل- منشورا يحمل عنوان « من يكتب النّقد الذّاتي للاتحاد الاشتراكي؟ »، لصاحبه الدكتور محمد الشرقاوي، أستاذ تسوية الصراعات بجامعة « جورج ميسن » الأمريكية؛ بعد ذلك، اتفقنا على أن نتبادل، بعد الاطلاع عليه، انطباعاتنا وآرائنا وتفاعلاتنا حول الموضوع، كما تعودنا أن نفعل ذلك مع بعض القضايا ذات الاهتمام المشترك. وقد كان لافتا، بعد قراءتنا للمنشور المذكور، أن التقت تقييماتنا وملاحظاتنا حول شكله ومضمونه.
وبما أنه يحمل يافطة جامعة أمريكية محترمة، ويتناول ماضي وحاضر حزب سياسي مغربي عريق، تاريخه يشكل جزءا أساسيا من تاريخ المغرب المعاصر، فإن ذلك لم يكن ليتركنا مجرد متتبعين، خاصة وأنه تفوح منه، ضمنا وتصريحا، رائحة تصفية الحسابات مع القيادة الحالية لحزب الاتحاد الاشتراكي.
ولذلك تساءلنا – نحن الأساتذة المتقاعدين (عائشة زكري، محمد العبدلاوي ومحمد إنفي)، المنتمين فكريا وتنظيميا إلى هذا الحزب، والموسومين، في قاموس الشرقاوي، مع باقي المنتمين إليه، بالاتحاديين الجدد أو المخزنيين الجدد أو اتحاديي الموالاة وغيرها من التعابير القدحية – تساءلنا عما يجب القيام به تجاه هذا الحكم المسبق والتصنيف المغرض. ومن هنا، جاءت فكرة هذا المقال الذي توافقنا على إنجازه ونشره، خاصة وأن المنشور المذكور قد أقنعنا، عن جدارة، بأنه يفتقد إلى أبسط شروط القراءة النقدية النزيهة، وبعيد كل البعد عن قواعد وأخلاق البحث والتحليل الرصين والموضوعي؛ وهذا يتنافى مع الصفة العلمية والمهنية والأكاديمية التي يحملها السيد محمد الشرقاوي، صاحب المنشور.
ونظرا لحجم هذا المنشور (79 صفحة) الذي يحمل تاريخ 10 ماي 2020، واعتبارا لتعدد حلقاته (أو أجزائه)، فقد ارتأينا، توخيا للاختصار وعدم السقوط في الإطناب، أن نركز اهتمامنا في شقين: الأول يتناول الجانب الشكلي، والثاني يهتم بالمضمون، وإن كان هذا الفصل بين الشكل والمضمون يبقى إجرائيا فقط، نظرا لارتباطهما الوثيق.
الشق الأول: ملاحظات حول الشكل:
لم يكن موقف الشرقاوي من الاتحاد الاشتراكي وقيادته الحالية، هو الدافع إلى إنجاز هذا المقال؛ بل الشكل الذي أعطاه لمنشوره، هو الذي كان حاسما في تحفيزنا على ذلك. فنحن لم نكن نجهل كتابات الشرقاوي حول الاتحاد. فقد سبق له أن نشر هذا النص الذي بين أيدينا في بعض الجرائد المغربية على شكل حلقات؛ ولا نعتقد أن الصدفة هي التي تحكمت في اختيار المنابر المعروفة بعدائها للاتحاد الاشتراكي. ورغم تتبعنا كمهتمين لتلك الحلقات في الصحافة وفي الفيسبوك، فقد التزمنا الصمت حيالها (وإن كنا من كتاب الرأي، وعادة ما نتفاعل بمقال أو تدوينة، على الأقل، مع ما يثيرنا من أراء أو أفكار، إن سلبا أو إيجابا)؛ وذلك، لقناعتنا بأنه يحق لكل شخص، باسم حرية التعبير، أن يقدم وجهة نظره في الحزب وفي تاريخه ورموزه ومواقفه وأدبياته وقياداته… وقد كان بإمكاننا أن نرد على كل ما لا يستقيم، سواء مع حرية التعبير أو مع الحق في الاختلاف في الرأي وفي النظر؛ غير أننا فضلنا التجاهل.
لكن لما ظهر المنشور تحت يافطة GEORGE MASON UNIVERSITY، لم يكن ذلك ليتركنا غير مبالين، لاعتبارات أكاديمية وعلمية وأخلاقية وسياسية. وهكذا، فكرنا في التفاعل مع ما جاء في هذا المنشور، من جهة، احتراما وتقديرا للجامعة التي يحمل اسمها؛ ومن جهة أخرى، من أجل كشف بعض الخلفيات التي حركت صاحبه؛ خاصة وأن ما جاء فيه يتناقض، في نهاية المطاف، مع أهم معايير النقد والتحليل الموضوعي؛ كما يتعارض مع الصفة التي يحملها كاتبه والوظيفة التي يقوم بها في الجامعة التي ينتمي إليها.
وقد كان لهذا النشر باسم الجامعة، الفضل في تنبيهنا إلى الجانب الشكلي في المنشور؛ وهو ما جعلنا نهتم به وبالشكل الذي قُدِّم به، في محاولة لفهم بعض الأسباب التي جعلت الشرقاوي يقدم على إقحام الجامعة الأمريكية العريقة التي احتضنته، في صراع حزبي محض لا يعنيها في شيء، لا من الناحية العلمية ولا من الناحية التربوية.
وهكذا، تزاحمت في أذهاننا عدة تساؤلات، من بينها: هل في النشر باسم الجامعة بحث عن تزكية أكاديمية لعمل غير أكاديمي؟ وتساءلنا إن كان في هذا النشر تدليس على الجامعة المعنية من خلال استغلال اسمها في عمل لا يعنيها. وتساءلنا، أيضا، إن كان يحق للباحث أن ينسب إلى الجامعة التي ينتمي إليها عملا غير علمي. وتوالت الأسئلة من قبيل: متى كانت للمقالات الصحفية التي تُستعمل في تصفية الحسابات الشخصية أو السياسية، مكانة بين الدراسات النقدية أو الأبحاث الجامعية؟ وهل يمكن للتحيز، في خلاف ما، إلى طرف على حساب طرف آخر، أن يكتسب صفة أكاديمية؟ وهل…؟ وهل…؟
وعلاقة، دائما، بالجانب الشكلي، نشير إلى أن الشرقاوي اختار (أو احتفظ ب) الصيغة الصحفية؛ أي الحلقات، وهي ثمانية. وكل حلقة لها عنوانها الخاص (ولها أيضا عناوين فرعية لافتة، لا داعي لاستعراضها هنا، رغم أهميتها من حيث الشكل والمضمون). وتأتي هذه الحلقات على النحو التالي: 1. »بنعبد القادر: خبير طبّ جراحة الأفواه لاستئصال ألسنة المغاربة وحتى بلعومهم »؛ 2. « سؤال المرحلة: ماذا تبقّى من العقيدة الاتحادية؟ »؛ 3. « لماذا يتّهم العروي بن بركة باستغلال الماركسية ‘تكتيكيا’؟ »؛ 4. « هل قرأ لشكر كتب ماكس فيبر حول الشرعية السياسية؟ »؛ 5. « هل يتذكر لشكر المنطلق النقدي للاتحاد الاشتراكي إزاء الدولة؟ »؛ 6. « بين ‘مجتمع المدن’ لدى الجابري و’دار الملك’ لدى حمودي »؛ 7. « كيف أصبح الاتحاديون الجدد إخوان الصفا وأهل ‘التسليم وقبول التأييد’؟ »؛ 8. « الاحتضار السياسي أشدّ من الموت! ».
وتُفصح بعض، إن لم يكن كل العناوين التي اختارها الشرقاوي لهذه الحلقات الثمانية، عن غير قليل من « الخبث السياسي ». وقد يكفينا النظر إلى صيغة عنوان الحلقة الأولى وعنوان الحلقة الأخيرة، لندرك هذا الخبث. والقراءة المتأنية للحلقات الثمانية، تجعل القارئ يجده (أي الخبث) مجسدا، شكلا ومضمونا، بهذا القدر أو ذاك في كل حلقة.
وحتى نبقى في الجانب الشكلي، ولا نبتعد عن مفهوم المقال/الرد الذي اخترناه كصيغة للتعامل مع منشور الدكتور محمد الشرقاوي، فقد تعمدنا أن نتجاهل الحذلقة (pédantisme) البينة والواضحة في الاستعراض (étalage) المعرفي (الثقافي والتاريخي) الذي يحشو به الشرقاوي منشوره لأهداف لا تكاد تنطلي إلا على من تستهويه الحذلقة ويبهره استعراض العضلات الفكرية والثقافية. فالشرقاوي يوظف، مثلا، التاريخ، بما فيه تاريخ الأفكار، من أجل إعطاء منشوره طابعا أكاديميا. ويتوخى من وراء ذلك، أن يضفي نوعا من الشرعية على مقاصده الذاتية التي يبدو أنها لا تتجاوز الرغبة في تصفية الحسابات مع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وقيادته الحالية. وهو أمر يتنافى والأعراف الأكاديمية والأخلاق العلمية والنزاهة الفكرية.
ونود أن نختم هذا الجزء من المقال بملاحظة تتعلق باللغة المستعملة في المنشور. فبقدر ما يتطلب الخطاب النقدي والدراسة الأكاديمية جهازا مفاهيميا يقوم على اللغة الواصفة التي تتميز بالدقة التعبيرية وتسمح بالتعامل الحيادي مع المعطيات وتضمن صرامة التحليل وموضوعية الأحكام، بقدر ما نجد أن منشور الدكتور محمد الشرقاوي يفتقد إلى كل هذه الخاصيات؛ فهو معيب في لغته لكونه لا يستعمل اللغة الواصفة؛ بل تغلب عليه اللغة السائلة (fluide) المميزة للخطاب السجالي.
وبالإجمال، فقد جعل من ذريعة إنجاز دراسة نقدية بعنوان « من يكتب النّقد الذّاتي للاتحاد الاشتراكي؟ »، مناسبة لاستعمال قاموس لا علاقة له بالخطاب النقدي الرصين ولا بلغة البحث والتقييم الموضوعي؛ بل قاموس يعج بالألفاظ والتعابير القدحية (وحتى السوقية) التي ترقى أحيانا إلى مستوى القذف؛ ناهيك عن التعابير التي يطفح منها التحامل وغيره من المشاعر السلبية، من قبيل « شطحات لشكر »؛ « دراما تخليد الذكرى السنوية الستين »؛ « المنهجية النفعية »؛ « المخزنيون الجدد » (أو « الاتحاديون الجدد »)؛ « تلوثت سمعة الاتحاديين »؛ « استئصال ألسنة المغاربة وحتى بلعومهم »…وغير ذلك من التعابير التي تنضح بالذاتية ميولا وتقديرات.
الشق الثاني: ملاحظات حول المضمون:
لقد رافقنا تساؤل، ونحن نكتشف منشور الشرقاوي، حول ما إن كان صاحبه أستاذا لمادة تسوية الصراعات، فعلا، أم أنه خبير في تأجيج الصراعات!! وما دفعنا إلى طرح هذا التساؤل، هو فضولنا الفكري والمعرفي الذي جعلنا نكتشف تدريجيا، من خلال قراءتنا المتفحصة، أن أستاذ تسوية الصراعات يتعمد تضخيم بعض الخلافات الداخلية العادية التي تفرزها دينامية الحزب وتفاعلاته مع الأحداث في العشرية الثانية من القرن الحالي، ومنها تلك التي طفت إلى السطح مؤخرا؛ ويتم هذا التضخيم من خلال التركيز بشكل أساسي على المفتعل منها وتقديمها كخلافات جوهرية.
وفي تركيزه على العشرية الثانية من القرن الحالي، تناقض صارخ مع ما يزعمه من كونه يقدم قراءة نقدية لمسار الاتحاد بين 1958 و2020. فمسار الاتحاد، كما يعلم كل متتبع للحياة السياسية بالمغرب، هو مسار خلافات داخلية وصلت في مراحل معينة إلى تصدعات (انشقاقات). وهذه التصدعات أو الانشقاقات لم تضع حدا للخلافات؛ فهي تكاد تكون بنيوية. ويرى فيها مثقفو الحزب دليلا على الحيوية ومصدرا من مصادر القوة، وليس العكس، ما لم تتجاوز، بالطبع، الحدود المعقولة والمقبولة سياسيا وفكريا وتنظيميا.
وهذا التركيز على خلافات العشرية الثانية من القرن الحالي وقفزه المتعمد على الفترات السابقة، ينم عن طغيان الذاتية في ما يدعي أنه قراءة نقدية لمسار الاتحاد من التأسيس إلى المرحلة الحالية. لقد تحاشى الشرقاوي الخوض في الانشقاقات التي عرفها الاتحاد الاشتراكي في عهد عبد الرحيم بوعبد وعهد عبد الرحمان اليوسفي وعهد محمد اليازغي؛ كما تجاهل فترة عبد الواحد الراضي وصرخته المحذرة من الانتحار الجماعي. وهذا ما يطرح أكثر من تساؤل. فهل للرجل/الباحث حسابات شخصية أو سياسية مع القيادة الحالية للاتحاد الاشتراكي ويريد تصفيتها بهذه الطريقة؟ أم له حسابات مع المشروع الذي يحمله الحزب نفسه، فيعرض خدماته على كل من له مصلحة شخصية أو سياسية في تأزيم الأوضاع الحالية بداخله؟ أم أن المعني بالأمر يخدم أجندة معينة لصالح جهة ما؟…
وربما هذا ما جعله يسقط في كثير من التناقضات ويقع في العديد من المغالطات، نستعرض بعضها على سبيل التمثيل لا الحصر. فهو يتحدث، مثلا، عن تراجع الحزب منذ مطلع القرن الواحد والعشرين؛ لكنه لا يتردد في القول بأن لشكر « لم ينجح في الحفاظ على مستوى الحزب لا سياسيا ولا تنظيميا »(ص 14)؛ ثم إنه يقر بموت الأحزاب الاشتراكية في العالم العربي وبتراجع أحزاب اليسار على الصعيد الدولي؛ لكن حين يتعلق الأمر بالاتحاد الاشتراكي، فالكاتب الأول الحالي هو المسؤول عن تراجع أهم حزب يساري مغربي؛ مما يؤكد فرضية تصفية الحسابات معه شخصيا. ولو أردنا أن نستعرض كل تناقضات الشرقاوي، لاحتجنا إلى عدة صفحات.
وإلى جانب التناقضات، هناك مغالطات، يوظفها الشرقاوي لتحقيق هدفه الذاتي. فبداية من المقدمة التي وضعها لمنشوره، ينطلق أستاذ تسوية الصراعات (الجدير باسم أستاذ تنمية الصراعات) من أسئلة مغالطة في مقاربته التي تمثل ما يعرف في المنطق بالمصادرة على المطلوب حيث يسعى إلى حشد ما يظنه مُعزِّزا لما يعتقده مسبقا؛ فهو يتحدث عن تصاعد الاحتجاج على تخلي قيادة الحزب حاليا عن ثوابت العمل السياسي التي نادى بها قادة الحزب التاريخيون؛ لكنه لا يبرز أي ثابت من هذه الثوابت التي تم التخلي عليها ولا يهتم بالتفسير الموضوعي للتطور الذي حصل في الحزب بتساوق مع التغير الحاصل في النظام. وحين يتساءل إن كان « لشكر يتذكر المنطلق النقدي للاتحاد الاشتراكي إزاء الدولة »، فهو يلغي، ضمنيا، كل ما حصل من تطور في المجال السياسي الوطني منذ 1998.
وحين يتساءل: « هل لا زال الاتحاد يرتبط برؤية عضوية مستقاة من فكر اليسار وقناعات الكتلة التاريخية؟ »، فهو لا يقدم لنا ولو فكرة واحدة من أفكار اليسار التي يزعم أن الحزب قد تخلى عنها. أما إقحام قناعات الكتلة التاريخية في مسار حزب الاتحاد الاشتراكي وإيهام القارئ بأن هذا الأخير قد تخلى عنها، فهو يدل على أحد أمرين: إما أن الشرقاوي يتعمد التدليس على القارئ؛ وإما أنه يجهل جهلا تاما أدبيات الحزب. فنحن نتحداه أن يثبت وثيقة حزبية واحدة تتبنى أطروحة الكتلة التاريخية التي دعا إليها المفكر والقيادي البارز الدكتور محمد عابد الجابري، أو أن يجد أي مقرر أو برنامج حزبي، تم تبنيه على أساسها. فتداولها لم يتجاوز النقاش الفكري ولم يكن لها وجود خارج الأدبيات الشخصية.
وكيفما كانت الدوافع والذرائع التي تقف خلف هذا العمل، فإنه لا يشرف من يحمل صفة باحث ولا يليق بمن يُدرِّس لطلابه بجامعة « جورج ميسن » الأمريكية مادة تسوية الصراعات؛ ذلك أن ما وُصف بدراسة نقدية تفتقر إلى الموضوعية وإلى النزاهة الفكرية والأمانة العلمية، التي يقتضيها النقد الموضوعي. فالتعابير القدحية التي ترقى أحيانا إلى مستوى القذف، كما أسلفنا، وإصدار أحكام قيمة أو إطلاق أحكام اعتباطية أو الانسياق مع الأحكام المسبقة أو التحيز إلى طرف على حساب طرف آخر في الخلافات الداخلية، ثم جعله الإشاعة مصدرا ومرجعا، يعتمد عليها في الدراسة المزعومة…؛ كلها أشياء تتنافى والخطاب النقدي الموضوعي.
وكما سبقت الإشارة قبلا، فإنه يكفي الاطلاع على الفقرة الأولى من المقدمة التي وضعها الشرقاوي لـ »دراسته »، لإدراك مدى تحامله على القيادة الحالية للاتحاد الاشتراكي؛ مما يسقط صفة الدراسة عن المنشور كله. فمن الجملة الأولى في المقدمة، يبرز الهدف الأساسي مما سمي بالدراسة النقدية. فعلى غرار صنف من رواد « الفايسبوك » (وأحيانا بلغتهم السوقية)، الذين لا يتقنون سوى لغة السب والشتم والقذف، وبأسلوب بعض الأقلام المأجورة أو تلك المغمورة التي لا تزال تحاول بناء مجدها الإعلامي على حساب أخلاق المهنة، يقدم لنا الدكتور الشرقاوي نموذجا صارخا في التحيز وفي السعي إلى تصفية الحسابات السياسية مع القيادة الحالية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
فقد حمَّل، بدون تحفظ أو احتياط منهجي، مسؤولية مشروع قانون أثار الكثير من الجدل في المغرب، إلى وزير العدل، السيد محمد بنعبد القادر، وإلى الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، السيد إدريس لشكر (وكأنه هو رئيس الحكومة)؛ في حين أن المسؤولية الدستورية والتنظيمية (ولا نعتقد أن الشرقاوي يجهل ذلك) تعود لرئيس الحكومة ولأمينها العام.
وفي نفس الجملة (الجملة الأولى من المقدمة)، أقحم الشرقاوي « احتفالية الستين للحزب التي طغى عليها [حسب زعمه] سؤال الغياب أكثر من جواب الحضور ومقاطعة عدد من أبرز القادة التاريخيين للاتحاد… »، قبل أن يضيف: « وفي ظل تصاعد الاحتجاج على تخلي قيادة الحزب حاليا عن جل ثوابت العمل السياسي الذي نادى به بن بركة وبوعبيد والجابري وبن جلون واليوسفي واليازغي وغيرهم… »؛ وهي كلها أقوال تبرز أن المستهدف هي القيادة الحالية للاتحاد الاشتراكي.
وحتى لا نتجاوز حجم مقال صحفي، سوف نكتفي بمثال واحد عن افتراءات الشرقاوي وادعاءاته. لقد بذل مجهودا كبيرا لإيهام القارئ بأن الذكرى الستين قد تحولت إلى دراما (وما هي دراما إلا في مخيلته التي تبدو مهووسة بـ »لشكر » إلى حد المرض) والمصالحة قد تحولت إلى سراب لمجرد أن بعض القياديين السابقين قد تخلفوا عن الحضور، رغم أنه يعلم الحالة الصحية لبعضهم (اليوسفي والأموي والجبابذي وغيرهم).
ويعتمد الشرقاوي، في ادعاءاته، على ما روجت له المنابر الإعلامية المعروفة بعدائها للاتحاد الاشتراكي، وعلى بعض الأصوات التي لم تكل ولم تمل في « الاجتهاد » لإثبات وفاة الاتحاد بسبب لشكر، إرضاء لأنانيتهم المريضة؛ بينما تجاهل كل ما نُشر على نفس الحدث في المنابر الرصينة التي تحترم القواعد والأخلاق المهنية؛ كما تجاهل الأسماء والوجوه الاتحادية البارزة (من كل الأجيال؛ من المؤسسين إلى الأجيال الشابة) التي غص بها مسرح محمد الخامس.
ونختم هذا المقال بالقول بأن النقد الذاتي للاتحاد الاشتراكي، لن يكتبه إلا الاتحاديات والاتحاديون. وهم يقومون بذلك، فعليا، خلال كل محطة من المحطات التنظيمية للحزب. فالتحضير للمؤتمرات الوطنية، هو مناسبة لذلك. فالمؤتمر هو محطة للوقوف على حصيلة القيادة المنبثقة عن المؤتمر الذي قبله؛ وهو مناسبة أيضا لقراءة المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد لتحديد المواقف واتخاذ القرارات الملائمة للأوضاع المستجدة. وتكون فترة التحضير مناسبة للقيام بقراءة نقدية للمحطة السابقة للوقوف على النجاحات والإخفاقات من أجل ترصيد الإيجابيات والعمل على تجاوز السلبيات. وهو عمل جماعي بامتياز، تحكمه القواعد الديمقراطية والأنظمة الداخلية.
أما منشور محمد الشرقاوي، فهو معيب شكلا ومضمونا، كما حاولنا تبيان ذلك في هذا المقال الذي نضيف إليه هذا التساؤل: ما مبرر إقحام أسماء مثقفين مغاربة ليس لهم ارتباط تنظيمي بالحزب (العروي وحمودي، على سبيل المثال) في السجال السياسي مع قيادة الاتحاد الاشتراكي؟
التوقيع: عائشة زكري، محمد العبدلاوي، محمد إنفي
Aucun commentaire