النموذج التنموي بين الدوافع والإكراهات المحتملة
أحمد الجبلي
لا يمكن الحديث عن النموذج التنموي إلا إذا تحدثنا عن التقييم الصريح الذي قدمه جلالة الملك محمد السادس لمشروع التنمية البشرية الذي انطلق سنة 2015، فما قاله في خطاب 2017 اعتبره المحللون سابقة عربية لم يحدث مثلها في أي دولة عربية من حيث الصراحة والوضوح.
فقوله بأن مشروع التنمية البشرية أصبح غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة والحاجيات المتزايدة للمواطنين، وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية. ودعوته إلى تسمية الأمور بمسمياتها دون مجاملة، ودعوته إلى اعتماد حلول مبتكرة ولو أدى ذلك إلى زلزال سياسي، يعد كلاما فضح نفاق الأحزاب التي ظلت تطبل وتزمر للتنمية البشرية، رغم علمها بأنها كانت مشروعا فاشلا، وأحد أبرز أسباب فشله هو الأحزاب نفسها التي استغلته لتحقيق مكاسب انتخابوية وتوسيع منخرطيها فتعاملت بالزبونية والمحسوبية وحرمان العديد من المراكز السوسيوثقافية من الكفاءات والأطر ذات الخبرة والتجربة والقدرة على التسيير.
فمن نتائج هذه الصراحة والشجاعة تحرك اللجنة الملكية للنموذج التنموي الوطني بكل حرية وأريحية وشجاعة، لذلك قامت بتوسيع دائرة الاستشارة واستقصاء الآراء وعقد تجمعات، واستقبال مقترحات بشكل غير معهود. وهو الأمر الذي تم الحديث عنه بوضوح في مقدمة النموذج التنموي. إذ لم يخف أن من أهداف هذا النموذج استرجاع الثقة وهو إ قرار واضح بأن العديد من المخططات لم تكن تجد لها تطبيقا ولا صدى في الواقع مما جعل المواطن يفقد ثقته في العديد من المشاريع كالميثاق الوطني للتعليم الفاشل، والمخطط الاستعجالي، والمشروع الأزرق، ومشروع تنمية العالم القروي الذي كان محط تركيز في الخطاب الملكي لسنة 2017 كدلالة على فشله الكبير.
لعل من أهم الدوافع التي كانت من وراء ابتكار فكرة النموذج التنموي هو كون الدولة المغربية لم تعد كما كانت ضعيفة تابعة تعمل بالتوصيات والأوامر، كما هو الشأن بالنسبة لجميع دول العالم الثالث.
بل إن الدولة المغربية، كما يشهد بذلك كل العالم، قويت شوكتها، فأصبحت لها دبلوماسية دولية قوية يضرب لها الحساب، وأجهزة مخابراتية تحمي الوطن من الخارج قبل الداخل، بل أصبحت شرطي العالم والعين التي لا تنام والتي لا تكتفي بحماية المغرب بل رأينا أنها تحمي العالم من الضربات الإرهابية الغادرة.
لهذا صارت الدول، بما فيها أمريكا نفسها تسارع للتنسيق الأمني مع المغرب، بل إن أمريكا حاولت مرارا سرقة رجاله وإغواء بعضهم بالجنسية والمال ليكونوا أحد رجالها الأمنيين.
إلى حد قريب تفاجأ العالم باللهجة القوية التي تحدث بها المغرب مع ألمانيا، ولازال العالم لم يستوعب بعد كيف للمغرب أن يعزل إسبانيا عن الاتحاد الأوربي، ويجعلها بين فكي كماشة، ويخلط كل أوراقها فجعلها تائهة لا تدري ما العمل.
ويبقى السؤال الأهم هو كيف لمغرب اليوم أن يكون قويا دبلوماسيا وأمنيا ومن ورائه مجتمع هش وضعيف؟ إن الأمر لا يستقيم بحال من الأحوال، فهو أشبه بجسد قوي الصدر عريض الأكتاف بساقين هزيلتين نحيفتين.
إن النموذج التنموي جاء لكي يصحح الأمر، ويجعل الدولة القوية تستند إلى مجتمع قوي تنعدم فيه الفوارق، تسري فيه عدالة اجتماعية تجعل الإنسان كمواطن يتساوى مع جميع المواطنين في جميع الحقوق، له دخل فردي مرتفع يسمح له بالعيش الكريم، كما يفتح أمامه المجال ليبرز طاقاته ومهاراته ليسهم في الإنتاج والاقتصاد والثروة ويبدع بكل حرية فيما يتقنه ويحسنه ويمهر فيه. حيثما ولج، يجد جودة في المعاملات والخدمات سواء على مستوى التعليم أو الصحة أو أي إدارة أو مؤسسة، بدون أي تعقيدات قروسطوية عفا عنها الزمان وعذبت المواطن طيلة أجيال.
إن المغرب مقبل على عهد جديد يتأسس أولا على استرجاع الثقة لدى المواطن، وهذه الثقة فرضها واقع تاريخي مرير دفع بالمواطن إلى اليأس من جميع المخططات، أي لا مناص الآن أمام الدولة من الشفافية والوضوح واسترجاع الثقة المفقودة. ولعل هذه الثقة بدت بعض ملامحها انطلاقا من الخطاب الملكي الواضح، والتقرير الذي صدر عن اللجنة الملكية للنموذج التنموي، حيث تميز بتسمية الأمور بمسمياتها، كما تضمن اقتراحات أبناء الشعب ورغباتهم بكل أمانة ونزاهة. وهي إرهاصات من شأنها أن تحقق الثقة إذا ما استمرت وفق ثلاثية التخطيط والتنزيل والتتبع بشكل مسؤول يربط فعليا المسؤولية بالمحاسبة.
إن حرص المغرب على تنزيل نموذجه التنموي، والذي أسال لعاب فرنسا وبعض الدول، سيجعله يتفادى جميع الإكراهات منها اجتناب الدخول في أي حرب مع دول الجوار، لأن جره إلى أي فتنة من شأنه أن يفوت عليه هذه القفزة النوعية التنموية التي هو مقبل عليها.
كما هو مطالب بإيجاد حل عاجل لمشكلة الأطماع الأجنبية التي تكالبت على جبل تروبيك، كجبل يختزن معادن حديثة وثمينة ذات علاقة بأي إقلاع تكنولوجي هام.
فعلى هذا المستوى أي مستوى الخارج، يبدو أنه يقطع خطوات ناجحة وسريعة ويمشي بخطى حثيثة لتسوية النزاع المفتعل في صحرائه، وتسوية حدوده البحرية حتى يقطع الطريق في وجه الجار الشمالي الذي انكشفت ألاعيبه وخباياه وأسراره وأطماعه.
وأما على مستوى الداخل، وهو الأهم والأخطر، فإن المؤسسات المغربية المنتخبة منها وغير المنتخبة فيجب ألا تستمر في خبثها السياسي والمدني وتتعامل بعقلية ماضوية قوامها النفاق والتزوير والمحسوبية والزبونية والريع والرشاوي، كما لا يمكن أن يبقى الإنسان المغربي عبدا لأنانيته وجشعه، لأن الأوان حان للقطع مع أي سلوك من شأنه أن يعيدنا إلى الخلف، فلن يبقى هناك أي مبرر للغش في الامتحانات، سواء كانت امتحانات الصغار كالباكالوريا وباقي المدارس العليا أو امتحانات الكبار كالكفاءة المهنية، كما لا يعقل أن نسمع عن تسريب الامتحانات أو تمرير صفقات لشركات صديقة أو دفعت أكثر في إطار تزوير المعايير والمعطيات.
كما لا نريد أن نكون شهداء مرة أخرى على مجزرة انتخابية تدبح الديموقراطية من الوريد إلى الوريد، كما لا نريد، في المقابل، أن نرى مرشحا، أميا كان أو متعلما، يمشي في الأحياء ويرشي الناخبين ويعقد الولائم عوضا عرض برنامج حزبه وشرحه كي يساهم هو نفسه كمرشح في الرفع من مستوى الوعي لدى المواطن.
الخلاصة إننا في حاجة لنكون مواكبين لهذا النموذج التنموي ونعي دورنا كاملا غير منقوص فنعدل من العديد من العادات السيئة الاجتماعية والثقافية والاجتماعية ونتحلى ببغض السلوك الحضاري الذي يترفع عن كل ما يمجه الذوق وتعيبه القيم.
Aucun commentaire