بقلم .. عمر الطيبي
من أصعب الاشياء في رثاء الاصدقاء والاحبة ممن لهم مكانة في القلب، ومساحة في الوجدان، الخوف من أن لا تطاوعك الكلمات، فلا تحسن تخليد ذكراهم، خاصة لما تباعد بينك وبينهم السبل .. في الزمن وفي المكان، على غرار ما حصل بيني وبين رفيقي في مرحلة الجامعة، وصديقي بعدها، الفقيد العزيز حسن السوسي، ومنها أيضا ان المرء لما يرثي صديقا ّأو رفيقا، فانما يرثي، وبالضرورة، جزءا من ماض شخصي ولى وأدبر الى غير رجعة، او قل جزءا من « تاريخه » الذاتي، كف فجأة عن أن يكون.. وانه لامر محزن ومؤلم .. لكن رغم ذلك، وربما بسبب ذلك، أجد مسوغ رثاء رفيقي وصديقي الراحل، ومبرر تّأبين ذكراه الطيبة، في كون أنه، ظل في تقديري، وما يزال، من نوع الرجال الذين يقال عن الفرد منهم انه كان « نسيجا وحده »، بل أرى أن حسن السوسي كان دليل مرحلة ورمز جيل، هو جيلنا بالذات

.
لقد اتيح لي التعرف على حسن خلال سبعينيات القرن الماضي في جامعة ظهر المهراز بفاس، أو القلعة الحمراء، كما كانت تسمى عند الرفاق، يوم كان هذا الصرح العلمي ـ النضالي يعج بالأفكار والنظريات، وتتداخل فيه المطالب بالشعارات والاحلام بالاوهام، والحقيقة باليوتوبيا، ويوم كانت طلائع الطلبة القادمين اليه من كل فج من ارجاء الوطن، تلتحق بـ »الساحة النضالية الحمراء » رأسا، وحتى قبل أن تلج مدرجات الدرس، متعجلة السير على خطى من سبقوها على دروب النضال ومعارج التضحية.
شخصيا لن انسى ما حييت تلك الحلقات المتواصلة، الغنية بمواضيعها، والثرية بقضاياها، حيث كنا، حسن السوسي وعبدو بلقزيز والطيب بلغازي ومحمد الحجام وعمر الطيبي .. وكوكبة كبيرة من المناضلات والمناضلين الافذاذ، الذين لا يتسع المجال هنا لذكرهم جميعا بالاسم .. ننتقد الاوضاع، نحلل المواقف، وندلي بالاراء، كنا نتعلم من بعضنا البعض، وكان النقد هو سلاحنا الاساسي في استيعاب الدرس، نختلف، نتوافق، نستفز بعضنا البعض، نتبادل الادوار، نرفع الصوت احيانا لنخفضهّ أخرى، لكن دائما في حدود ما تقتضيه اعتبارات اللباقة وواجب الاحترام، ثم نؤثت مساءاتنا بعد ذلك بالقراءة ومشاهدة الافلام السنمائية، او ربما بالاستمتاع بهواياتنا المفضلة، وباجمل الاغاني وأعذب الالحان، خاصة منها الملتزمة، وقد كان امام « مدينتنا » في هذا الحقل، بلا منازع، هو رفيقنا الجميل الفنان المبدع سعيد المغربي ..
في القلعة الحمراء ترسخ وعينا الوطني والقومي والاجتماعي والسياسي، واستكملنا تشكيل اذواقنا، وتوثقت عرى الصداقة وقويت وشائج الروح الرفاقية بيننا، وفي أجوائها تعلمنا كيف نكون مغاربة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وكيف نخلص للقضايا العادلة عبر العالم، ونحب فلسطين بالمطلق، ونكره الظلم والخيانة، وأيضا كيف ننفتح على مكتسبات العصر ونحاول استيعاب دلالاتها قدر المستطاع .. هذه الاجواء لم يعكر صفوها، بالنسبة لناّ، سوى الحملات القمعية المتكررة، والغارات البوليسية المباغثة، وقد خلفت نذوبها الظاهرة في اجساد الكثيرين منا، ونفثت سمومها الضارة في حيواتنا جميعا وبدون استثناء، ورغم ذلك جاز لنا أن نقول اليوم، بينما خريف اعمارنا يدنو من الابواب .. يا ايام فاس ارجعي .. وتلك الايام تأبى الرجوع الينا أيها الرفاق.. ا؟
سيخبرك كل من عاش في ظل تلك الاجواء، وتعرف خلالها، عن قرب أو عن بعد، على ذاك الفتى الاسمر القادم من الجنوب الشرقي لارض الوطن، انه كان دائما يتمتع بكاريزما خاصة، أو لنقل بشخصية ودودة، ناضجة، مسؤولة، تغلب عليها صفات التواضع والقدرة على الاصغاء، وأيضا وضوح الرؤية في تناول المواضيع والميل الى التحليل عند الدفاع عن الافكار، تجلل محياه ابتسامة ودودة، لا تمحي بسهولة، ومسحة دالة على ما تختزنه روحه الوثابة من قدرة على العمل والتحمل وطول النفس في خوض المعارك، الفكرية منها والنضالية، سواء بسواء.
أظن أن هذه الخصال والصفات هي ما أهل حسن لان يفرض مكانته على الساحة الجامعية كقائد طلابي، وهي المكانة التي ما لبث أن كرسها « رسميا » خلال المؤتمر السادس عشر للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، المنعقد عقب استعادة المنظمة العتيدة شرعيتها، بفعل سنين متواصلة من نضال وتضحيات الطلاب، وقد اطلع بهذا الدور بتفان واخلاص وبنجاح أيضا، لكنه مع الاسف دفع ثمنا غاليا لذلك، من حريته وصحته وراحتهّ الشخصية، على شكل مضايقات ومطاردات قمعية متواصلة اختتمت في النهاية باعتقال ظالم.
بعد أيام الجامعة لم ينقطع حبل التواصل بيننا تماما، واستمر ولو بشكل متقطع، بحيث التقينا احيانا في هوامش المسيرات الكبرى، التي عرفتها شوارع الرباط على مدار السنوات، وأخرى بمناسبة اللقاءات الثقافية والسياسية، والامسيات الشعرية لمحمود درويش وغيره من كبار الشعراء، في مسرح محمد الخامس، وفي مختلف المقار الرباطية، وحدثت بعض لقاءاتنا أحيانا هكذا بمحض الصدفة، لكني تابعت الكثير من انشطته الاعلامية وكتاباته السياسية وابداعاته الادبية، وحرصت بالخصوص على متابعة مرافعاته الاعلامية القوية، التي خصصها في الغالب للدفاع عن مغربية الصحراء، وعن انتماء المغرب لامته العربية الاسلامية، وأيضا للدفاع عن القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا العربية والانسانيةّ العادلة.
صنع حسن السوسي لنفسه مكانة محترمة على الصعيدين الوطني والعربي في مجالات الاعلام والصحافة والكتابة السياسية والابداع الشعري، اسم ظل الكثيرون يغبطونه عليه، لكنه استمر، رغم ذلك، وفيا لمبادئه واخلاقه وبساطته وطيبوبته، لا يحيد عنها ولا يتغير، ما يرجع في نظري، لطبع شخصي، متأصل لديه، وفي الثرات الثقافي لواحات الجنوب الشرقي التي تربى في احضانها، وأيضا لتقليد ثراثي مغربي اصيل، جعل الفقيد يسير طوال مشواره الدراسي والنضالي والمهني، على خطى من سبقوه، من تلك الفئة من القادة الوطنيين اليساريين المغاربة حفظة القران الكريم الكبار من أمثال شيخ الاسلام محمد بلعربي العلوي، وعبد الله ابراهيم، والفقيه البصري، ومحمد بن سعيد ايت يدر، ومحمد عابد الجابري، والحبيب الفرقاني، وعبد المجيد بوزوبع وغيرهم، وكان هؤلاء الرجال الافذاذ قد جعلوا كلهم من المبدأ الاخلاقي دليلهم ودالتهم، في الفكر و الممارسة السياسيةّ، وفي علاقاتهم مع الدولة والمجتمع والناس، وهو سار على نهجهم.
لست أدري ما اذا كان حسن قد اختار طريق الهجرة سبيلا للبحث عن أسباب العيش الكريم له ولاسرته اختيارا طوعيا، أو ما اذا كان قد اضطر للعيش خارج ارض الوطن اضطرارا ولاسباب قاهرة، على كل حال ومهما كان سبب تغريبته اللندنية، فانني أسفت وحزنت، لما رأيت صديقنا الراحل يبث شكواه من مفاعيل الغربة وتّأثير الاغتراب، وقد طوحا بروحه وكيانه بعيدا عن ارض الوطن، وجعلاه يعتذر لرفيقة عمره وانجاله وابنائه، حينما كتب في ذات اهداء: « الى زوجتي رقية .. الى أبنائي سميح، سلمىّ، شادي، ونزار الذين تحملوا الغربة عن الوطن وغربتي الخاصة، في الزمان والمكان، اهدي هذه المجموعة من النصوص .. لكم حبي، واليكم اعتذاري عن كل ما تسببت فيه من معاناة اضافية لكم، حقيقة ولو دون قصد ».(1)
أما وقد أذن الرحيل بالفراق، واسلم اخونا حسن الروح لباريها بينما هو متواجد في ارض الوطن وقدر له، يا لكرم الله، أن يدفن في ثراه الغالي، فلا يسعنا سوى أن نقول له وداعا ونم قرير العين ياحسن، لقد عشت حرا كريما، ومت شهما نبيلا، يغشى روحك الطاهرة السلام والسكينة ورضوان شامل من رب رحيم، أما بالنسبة لنا نحن اصدقاؤك ورفاقك فلربما كان بعض عزائنا في فقدانك أنك تركت فينا ذكراك الطيبة وتعريفك المميز للوطنّ، أو لست القائل يا صديقي:
« وطن هذا لا وثن/ سمو هذا لا وهن/ يا انت الذي تعبر/ جسور حياة لا تبقي/ ولا تذر/ يا انت / من تكون/ ماذا/ تزن/ وطني عز/ ونبل وطني/ لا يزر/فلا تعقد/ للاوهام أكاليل/ واهية .. الخ » (2).
الف مرثية وباقة نور على روح حسن ولذكراه الطيبة السلام ..
كتب في الرباط بتاريخ 15/ 11/ 2020
(1) حسن السوسي، المجموعة الشعربة « روح الياسمين » / الاهداء
(2) حسن السوسي، المجموعة الشعرية « لحن الحضور » / من قصيدة « وطن هذا لا وثن .. » ص 193.