« ضيفٌ كريم » في زمن الوباء
كمال الدين رحموني
نسعَد كثيرا بحرارة الاستقبال، ونتطلع إلى حسن الاستغلال، ونُعوّد النفسَ على جودة الاستثمار، فهاهو شهر الله يُعاوِد الإهلال، في زمنٍ غير الزمن، وظرفٍ خرجَ عن العادة والأحوال. ها هو شهر الله، الذي ظلّ يتردد على الناس كل عام، وظلوا يختلفون في طبيعة الاستقبال، ما بين إعداد الأطباق والأصناف، والاحتفاء المجافي لطبيعة الشهر الكريم، وبين أناس يعرفون له حرمة، ويسعون فيه بهمّة، فيجعلون منه شهرا للقرب، ويلتمسون فيه الصّلح، ويستبشر فيه المذنبون بالعفو ، وينتظر الصائمون فيه البشارة بالعتق، فهو الشهر الذي تُغَلَّق فيه أبواب النيران. غابَ الشهر الفضيل عاما آخر، لكنه عاد والعَوْد أحمدُ، ومَنْ لا يَحمدُ اللهَ على عودة الشهر لحاجة العباد إليه، فكيف الحال هذا العام والناسُ في زمن الوباء، بين تَحَدِّيَّيْن كبيرين: تَحدّي النجاة من الوباء، وتحدّي النجاة من نوازع النفس الآسرة، التي أدهشها الوباء، وأفزعها البلاء، وفرقٌ كبير من النجاتَيْن: النجاةِ من الوباء بشفاء الجسد، وسلامة البدن، ورفعِ الوباء بقدرة صاحبِ المَدَد، والنجاةِ من سوء المصير الذي به ربُّنا وعَدَ، ولذلك يبقى التحدّي الأعظمُ، أن ينجوَ الإنسانُ من تَبِعات العُمُرِ المكَبَّل بالشهوات. النجاةُ الكبرى، هي اجتيازُ رمضان بشهادة عنوانُها، مغفرةٌ لما تقدّم من ذنوب متراكمةٍ من آثار دنيا فانية، وفوزٌ بجنة عرضُها أرضٌ وسماواتٌ سَبْعٌ عالية .فهل نربح الرهان، أم يظل الوباء الشُّغلَ الشاغل، والهمَّ النازل؟ الرهانُ، أن نفوز بالعتق في شهر الصيام. رمضانُ في زمن الوباء، فرصة لإحياء معانٍ وقيمٍ رانَ عليها الضُّمور، وغشّاها ما غشّى من النسيان والسهو والفتور ، فقد كادت تنزوي قداسة الشهر لدى بعض الناس، وكاد الشهر الفضيل يتجرّد من « الهالة » التي تميز بها عن غيره، حتى أصبح بعضهم ينظر إلى الشهر الكريم، ويسمّيه « طقسا » من « الطقوس »، إسقاطا لمفاهيمَ مُسْتَفِزَّة، ورُؤىً متعسّفة. وبعضُهم تَعَوّد أن يُحيلَ رمضان، من شهر للطاعة إلى شهر للفُرجة والتسلية، وتبديدِ وقتٍ ثمينٍ، يؤدي ثمنَه غاليا إذا استمر غافلا ساهيا. رمضانُ ليس « طقسا » ولا « فُرجة »، رمضانُ ركن من الأركان، وشهرٌ له حُرمةٌ وخصوصية: العبادةُ فيه ترتقي وتزيد، والطاعةُ فيه تنمو وتُفيد، وغنائمُ العمل مُتاحةٌ لمن يُريد. وها هو رمضان في زمن الوباء، يَحُلّ حلول الطاعة والعبادة، ويأتي مؤنسا لنفس ظلت شاردة هائمة، مُرافقا لروح غدت تتوقُ للقرب من الربّ، بعد وحشة طالت، وتُعلِّقُ الآمالَ على التخرّج منه بامتياز، أو بدرجة ما. لكنْ، أنْ يُذهلَها الوباء، وتَسهوَ عن قيمة الجزاء، فتلك مأساةٌ أفظعُ من فظاعة الوباء. ولهذا، فإنّ الفطنةَ تقتضي الانتباه، وكياسةَ العقل تتوخى حسن الاختيار، أما القلب، فهو بريدُ الشوق للقرب من الحق، وتلك مؤيّدات تؤازر الصائم في زمن الوباء، للتخفُّف من ضعف تليد، بعدما أنهكه الوضع الجديد، ونال منه الظرف الشديد. ومَنْ تسلّح بهذه المؤيدات، فكيف للوباء أن ينالَ من علاقته بالشهر الفضيل، الذي أراده الله تعالى، شهرًا للإنجاز والعطاء، لِيُـريَ فيه العبدُ ربَّه، أنه يستحقّ أن يكون عبدا له في السرّاء والضرّاء، حين يخرج من محنة الوباء ناجيا، ومن لهيب نار يوم القيامة سالما، وإلى جنة ربّه داخلا. رمضانُ في زمن الوباء، دعامة قوية من دعامات الثبات في المِحَن والإحَن، وقد كان السلف الصالح، يتجاوزون إكراهات الدنيا في ظروف المعارك في رمضان، وهم يعلمون أن الواحد منهم قد يفقد حياته، رغبةً فيما عند ربه. رمضانُ فرصة قد لا تَتَكرَّر في حياة الإنسان، وفي زمن الوباء، ليتقوّى عل طاعة ربه، ويزدادَ به إيماناً، ومنه قُرباً. رمضانُ في زمن الوباء أيامٌ معدودات، لنتودّد إلى الله: نستنزل رحماته، ونستجلب نِعمه، ونَدرأ بلاءه، ونتوسل إليه، حين نقف على بابه في كل ليلة من رمضان، وهو سبحانه ينادي كل ليلة: » هل مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لَه، هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأُعْطِيَه، هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبَه » ، حتى ولو كان التضرّع إليه في البيوت، ونحن نوقن أن الله تعالى يعلم مكاننا، ويعرف حالنا : سرَّنا وجهرنا، وهو الغني عنّا، نوقن أنه – سبحانه- ينظر إلى عبادٍ أنْهَكَهُم الوباء، وهَدّهُم البلاء، لكنّهم راهنوا على الرجاء، فها هو رمضان، ونحن على هذه الحال، فهل نظن أن اقتران الصيام بالوباء إمعانٌ في التعذيب، أو إصرارا على التأديب، أم إنّ رمضانَ دعوةٌ للتخفيف من عبء الألم، والاعتراف بالنِّعم، وشحنِ الصائم بطاقة من الأمل، لممارسة العبادة، فَحُقَّ لرمضان في زمن الوباء، أن يتربَّع على قائمة العبادات الأخرى، يحمل للصائمين، دعواتِ المغفرة، وشهادات العتق، فهل نكون من الأخيار في شهر الأبرار؟
أهلّ الله علينا هذا الشهر بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، وجعلنا فيه من الصائمين القائمين ولكتابة من التالين، وللعمل الصالح من السابقين، وأجابَنا فيه سبحانه، لرفع الوباء، عنا وعن بلدنا وعن سائر البشر من الأبرياء. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
Aucun commentaire