الآن وقد خلت الشوارع من روادها وانفضت الجموع التي كانت إلى الأمس القريب  تملئ الفضاء ضجيجا وخفت حركة السير إلى حدها الأقصى , و لزم الكل مساكنهم طوعا أو كراهية  , فالخطب فادح والمصاب جلل , والعدو المجهول  يتربص بنا في كل مكان  فأين المفر ؟ .

أغلقت الحدود برا وبحرا وجوا, واتخذ من الاحتياطات ما يلزم في ظرفية صعبة , فالوباء متفش ولا دواء في الأفق يخفف من وطأته ولا لقاح وقائي في القريب من الأيام , ويبقى الترقب سيد الموقف مع الترقب بتحقق معجزة صناعة بلسم شاف يجتهد العلماء للتوصل إليه وهم معتكفين بمختبراتهم ومنكبين على تجاربهم تحت ضغط الزمن وحصيلة الوفيات التي تعرف منحا تصاعديا في جميع الأقطار وعبر القارات  , انه صراع من اجل البقاء  .

فللفيروس اللعين  من المناعة ما يحصنه للبقاء في الأبدان وانتقاله باللمس والسعال إلى كل إنسان بحكم المخالطة والجوار, وقد أبدى مقاومة شرسة لكل المضادات الحيوية وأقراص » البراسيتامول » ,وحتى  دواء « كلوروكين  » لا زال قيد التجربة , فهو في حصن منيع لا تهزمه المدافع والصواريخ , فالحرب غير متكافئة وتغيير الإستراتيجية أكيد والحل الوحيد هو  » نبقاو في الدار  » .

ونحن في حجر صحي  نلزم مساكننا ونأسر أنفسنا داخلها – لمصلحتنا ومصلحة وطننا- لا تعوزنا الوسيلة للتفكير والتأمل وإعادة توزيع زماننا  في فترة ما كانت لتتاح لنا لولا هذه الظرفية المستجدة , سنفتقد مؤقتا نعمة

حرية التنقل التي لازمتنا وسنفكر في من فقدوا هذه النعمة لسبب من الأسباب, وسنفكر في المرضى الذين لا يغادرون أسرتهم بالمستشفيات أو بمنازلهم وبذوي الحاجات الخاصة.

نفس الهم نحمله لكل الشعوب التي تعاني من ويلات الحروب والتمزق والتشرذم والجوع والمرض بعيدا عن شعارات الإنسانية والأخوة والتضامن والتكافل التي تبقى أضغاث أحلام .

سنعود للتاريخ لتقصي أخبار الآباء والأجداد في زمن الأوبئة والمجاعات, وسنذكر قصصا رويت لنا عن عام البون وعام الكوليرا والطاعون ,وكيف كان داء السل مستشر عصي عن العلاج  ,

 وما تختزنه الذاكرة من خوف وتوجس من غدر الزمان, مما استوجب – آنذاك –  اللجوء لتخزين الحبوب والزيوت والقطاني والفواكه الجافة من تين وتمر وزيتون ,تحسبا لعوادي الزمان من جفاف وسنين عجاف وحروب وغزوات وجراد يأتي على الأخضر واليابس, فكان المرء اضعف من الأيتام في مأدبة اللئام .

 سنراجع ما دونه المؤرخون عن هذه الحقب من تاريخ المغرب, وكيف كان السلاطين يواجهون الوباء في زمن ما قبل التطور العلمي واكتشاف اللقاحات, فكان الحجر يطبق عند الاقتضاء لمنع تفشي الوباء.

سنبحث في كتاب العبر و ديوان المبتدأ والخبر حيث سبق للعلامة عبد الرحمان ابن خلدون أن عاين أحوال البشر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر.

و من « ووهان » يأتينا اليقين بان الصين تغلبت على تفشي الوباء بالتحصين  في البيوت وإخلاء الساحات والتقيد بالتعليمات  الصحية والبيانات المتتالية لتوخي الحيطة والحذر , وبالتضامن والتآزر والتعاضد استطاع شعب المليار والنصف من السكان وقف زحف الآفة وتقويض صلابة الفيروس الفتاك فانخفضت نسبة الوفيات إلى أدنى معدلاتها , وعادت الخلايا النشيطة في المجال الاقتصادي إلى عملها اليومي  كخلايا النحل ودبت الحياة من جديد في قلب الصين النابض وشرايينها الحيوية , وأصبحت قدوة للعالم ودرسا لمن يريد أن يعتبر , فبالوحدة والجد نهزم كل معتد شرس حتى ولو كان من صنف كورونا المفترس .

إذن بالانضباط نجحت الصين في تخطي المرحلة الحرجة من تفشي الوباء , وكان لزاما على باقي الدول الاقتداء بها وخاصة المغرب الذي اتخذ مجموعة من الإجراءات الوقائية بصفة تدريجية وصلت إلى فرض حالة طوارئ صحية , وسنت أحكاما قانونية تقتضيها حالة الاستعجال , وقد لقيت استجابة واستحسانا لدى المواطنين رغم بعض الأصوات النشاز التي كعادتها أبت إلا أن تغرد خارج السرب , ولكن صوتها خافت غير مسموع , وتبقى للسلطات كلمتها لردع كل من يشيع البلبلة أو يمس بالنظام العام, وتحريك المتابعات وفق الاختصاصات المخولة لها قانونا, وهذا أمر محمود لان لا احد فوق القانون الذي لا يعذر احد بجهله.

فالجهل لا يقل خطرا عن فيروس كورونا, ويبقى الحزم سيد الموقف لتفادي كل ما من شانه الإخلال بالتدابير المتخذة لحماية صحة المواطن والحد من انتشار الفيروس, إنها حرب كما وصفها الرئيس الفرنسي في إحدى خطبه .

فلنتجند جميعا لمحاربة هذا الوباء بالبقاء في المنازل والمساهمة قدر المستطاع في صندوق التضامن ومساعدة المحتاجين والتآزر والتآخي اكبر من أي وقت مضى , كما يأمرنا بذلك ديننا الحنيف في القران والسنة .

تحية خاصة للسلطات العمومية والأطر الصحية من ممرضين وأطباء وقواتنا المسلحة الملكية وجنود الخفاء الذين يعملون  في الميدان ليل نهار لاستتباب الأمن العمومي و الأمن الصحي بتضحية ونكران للذات .فنحن نعتز بهم ونفتخر وننحني لهم إجلالا وتقديرا .

ويبقى الأمل في الله وفي مجهودات العلماء من ذوي الاختصاص في إيجاد الدواء لهذا الداء الفتاك خدمة للبشرية بروح وطنية وإنسانية.