تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى
بسم الله الرحمن الرحيم
تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى
لقد استطاع الغرب بصفة عامة والاتحاد الأوروبي بصفة خاصة من خلال تحكمه في الإعلام ووسائله أن يصنع لنفسه هالة من التفوق الاستثنائي في جميع المجالات، فقدت معها شعوب دول العالم الثالث وعلى رأسها الشعوب العربية والإسلامية الثقة بالنفس، مما نتج عنه بالضرورة احتقار النفس وفقدان الثقة والأمل في اللحاق بركبها. وسأَكتفي في هذا المقال بتسليط الضوء على هذه الهالة التي تمت إحاطتها بما يسمى الوحدة الأوروبية، التي أصبحت مرجعية للشعوب العربية والإسلامية في جلد أنفسها بالقول بأنه على الرغم من الاختلاف الحاصل بين شعوبها إن على مستوى العقيدة أو على مستوى اللغة، إضافة إلى الحروب التي يَحفَل بها ماضيها القريب، فإن حكامهم عملوا على تجاوز هذه العوائق وخلق وحدة ظاهرية توحي بالتضامن بين مختلف هذه البلدان وشعوبها، بينما لم يستطع حكام الدول العربية والإسلامية تحقيق الحد الأدنى من الوحدة التي ترنو إليها شعوبها، على الرغم من توفرها على أهم العناصر المؤدية إليها، والمتمثلة في وحدة الدين ووحدة اللغة ووحدة التاريخ.
إذا كان الاستعمار الغربي من بين أهم عوامل تقويض وحدة الأمة العربية والإسلامية من خلال زرعه لعوامل التفرقة التي تتمثل أساسا في التحريض على الانفصال عن الوطن الأم كما هو الشأن بالنسبة لجنوب السودان والصحراء المغربية، وفي خلق حزازات لغوية كما هو الشأن بالنسبة للأمازيغية والعربية في المغرب والجزائر على سيبل المثال، بالإضافة إلى العمل على ضرب أهم مقوم من مقومات الوحدة المتمثل في الإسلام.
إذا كان هذا واقعا فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل استطاع هذا الغرب الذي تفنن في زرع التفرقة لدى الآخر أن يبني وحدة وتضامنا فعليين، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون تضامنا مصلحيا لا يبرح أن يتلاشى بتلاشي المصلحة؟ لينطبق عليهم قول الله تعالى « تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى » من الآية 14 من سورة الحشر.
يلاحظ منذ مدة تكوُّن أحزاب يمينية بجل الدول الأوروبية همُّها الأساسي هو الخروج عن توجيهات الاتحاد الأوروبي، التي لا تخدم في نظرها مصلحة بلدان الأحزاب المعنية، ليتوَّج ذلك بخروج بريطانيا عن الاتحاد تنفيذا لنتائج استفتاء الشعب البريطاني. وعلى الرغم من تكاثر الأصوات التي تنادي بأولوية السيادة الوطنية، إلا أن الحكومات لا زالت تُعلن إصرارها على البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي. والسؤال هو: إلى أي مدى هي جادة في إصرارها هذا؟ وإلى أي مدى هي مستعدة للتضحية من أجل وحدة هذا الاتحاد؟
وأنا أتتبع حوارا مع أحد المختصين في الاقتصاد على قناة فرنسية في شأن تأثير فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي، لَفَت انتباهي تصريحه بأن كل من ألمانيا وفرنسا رفضتا تقديم مساعدة لإيطاليا تتمثل في تزويدها بالكمامات لتحتفظ بها لنفسها، وتساءلتُ في نفسي قائلا: إذا كانت فرنسا وألمانيا لا تستطيعان مساعدة دولة من دول « الوحدة » الأوروبية، فإن ذلك راجع لأحد سببين: إما أنهما لا تسطيعان فعلا مساعدتها وهذا ما لا ينسجم تماما مع تلك الهالة التي غشَّت عقولنا في شأن القوة الصناعية لهاتين الدولتين بالذات، بحيث كيف يمكن أن نتصور عجز البلدين عن تصنيع العدد الكافي من الكمامات لتغطية حاجياتها وحاجيات دول الاتحاد، في الوقت الذي قامت فيه الصين ببناء أكبر المستشفيات وتجهيزه بكل المستلزمات في زمن قياسي. وهو ما يحتم علينا إعادة النظر في هذا التصور الذي ركَّب فينا عقدة النقص أمام الغرب بصفة عامة وأمام هاتين الدولتين بالخصوص، حيث الإحباط والشعور باستحالة اللحاق بالركب، أصبح من القوة بما يعيق كل عناصر الثقة بالمنتوج الوطني والقدرات الوطنية ويجعل من التبعية الحل الوحيد أمامنا!
أما السبب الثاني فيكمن في الفرضية القائلة بأن الدولتان لا ترغبان في مساعدة إيطاليا على الخروج من أزمتها الصحية لأسباب قد تكون سياسية أو اقتصادية أو أي سبب آخر يجعل من الوحدة المزعومة شعارا للاستهلاك والظهور لدى أمم المعمور على أنها موحدة بما يصبغ عليها المهابة والخشية، في الوقت الذي ينطق فيه الواقع بأمثلة ملموسة تضرب هذه الوحدة المزعومة في الصميم، ولعل عدم استجابة دول حلف الأطلسي لدعم فرنسا في الساحل الإفريقي وتصريح ماكرون بالموت السريري لهذا الحلف مؤشر آخر على عدم حصول الوحدة المزعومة.
خلاصة القول هو أنه إذا كنا مطالبين باستخلاص الدروس والعبر من كل الأحداث والوقائع التي تحصل في العالم، واستثمارها في استرجاع الثقة بالنفس، وإيجاد الطرق والوسائل للحصول على موطأ قدم في عالم الغد، فإن ما يمكن استخلاصه من تعامل كل من فرنسا وألمانيا مع طلب « شقيقتهما » إيطاليا، هو أن هذه الدول ليست النموذج الذي يتعين الاحتذاء والاقتداء به لا سيما على المستوى القيمي والأخلاقي، ذلك أنه إذا تم التخلي عن إيطاليا في هذا الوقت الحرج فإنه من البلادة والحمق أن نتصور أنه سيتم الوقوف بجنبنا في الأوقات الحرجة، ولا شك أن موقف هذه الدول من قضيتنا الأولى لخير دليل على هذا، على الرغم من أن فرنسا تُبدي نوعا من الدعم المشروط بشروط لا تقل خطورة عن خطورة موقف الدول الأخرى التي تدعم الطرح المناوئ للمصلحة الوطنية، أما الخلاصة الثانية وهي تابعة للأولى بالنتيجة، فتتمثل في ضرورة الثقة في النفس وجمع الكلمة ونبذ كل الخلافات الهامشية والاعتماد على الله وعلى النفس، لا في توفير الكمامات فحسب وإنما في توفير كل الأساسيات التي تضمن استقلالنا الذاتي خاصة فيما يتعلق بالغذاء والدواء والسلاح. مسترشدين بقول الله عز وجل: « وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ » (الآية 103 من سورة آل عمران). صدق الله العظيم.
الحسن جرودي
Aucun commentaire