مذكرات استاذ متقاعد : نساء في السوق
يصنف المجتمع،،العمراوي،،ضمن التجمعات البدوية المحافظة،حيث ظل مجال حركة المرأة فيه محدودا ومحكوما بضوابط لا يتساهل فيها أحد إلى درجة أن الفتاة كانت مدعوة لقطع صلتها بأبناء عمومتها وباقي الأصول لا سيما الشباب منهم بمجرد أن تنتقل إلى بيتها الجديد.
وعموما فإن استعادة المرأة لزمام أمورها كان متوقفا على حصول تطورات معينة،لعل أهمها التقدم في السن أو الترمل.
وهكذا،وعندما يحكم السن على الأنثى بالخروج من دائرة الغواية،أو تفقد زوجها ،فإنها تصبح متحللة من الموانع المعتادة لترتاد السوق إلى جانب الرجال.
إن إغراءات السوق لا تقاوم،حيث كان الأهالي يترقبون الموعد الأسبوعي بشوق من أجل إشباع حاجياتهم المختلفة في التبضع والتواصل لتبادل الأخبار.
وهكذا، فإن بعض النساء كن يكتفين بالبقاء خارج السوق قرب،،القش،،المتكون من ،،الخرج والتليس،،ومحمولات الدواب.
كن يجتمعن قرب هذا المتاع ثم يشرعن في تبادل الأخبار ومراقبة حركة المتسوقين في انتظار أن يعمد أحدهم إلى إذكاء جو النقاش من خلال،،صينية شاي،،يتفضل بها على المجلس، وهذه التفاتة يتسابق نحوها الذكور للرفع من رصيد الثناء على أريحيتهم!
أما باقي النساء،فقد كن يدخلن إلى جنبات السوق بأكملها لبيع بعض المنتوجات واقتناء أخرى.
كان من المألوف أن تجد هؤلاء النساء في جناح بيع الحصير أو الدجاج والبيض وزيت الزيتون…
حينما يتم تصريف بضاعتهن،فإنهن كن يتداعين للالتحاق بمقهى فلان لتناول الشاي المرفق بخبز،،البقال،،رحمه الله فتكون الجلسة فرصة للتخلص مما يثقل صدورهن من هموم وأخبار قديمة للتزود بالجديد!
وإلى جانب التسوق، فإن هؤلاء النساء،،المتحررات،، كن يقمن بدور الوساطة لفائدة اللواتي لا يستطعن دخول السوق من حيث نقل عينات من السلع من أجل الاختيار ومعرفة الأثمنة أحيانا عندما تكون الصفقات بعيدة عن أعين الرجال!
ليس هذا فحسب،فقد كانت المتسوقات يكلفن من طرف عرائسهن أو من طرف الجارات بشراء مجموعة من الحاجيات التي قد لا يستجيب لها الأزواج باعتبارها من الترف إلا في حالات معدودة!
كانت والدتي-رحمها الله-من هؤلاء اللواتي دخلن السوق مبكرا بعد ترملها مما سمح لها بأن تعقد روابط مع نساء في سنها من كل الدواوير،وكانت تقحمني في جلسات السوق لأتحول إلى مادة نقاش أفهم منه ما كان مباشرا من قبيل كوني مشروع متعلم،بينما تغيب عني المقاصد حين يستعملن ألغاز،، بونسوان،،فلا أملك إلا أن انسحب.
كان هؤلاء النساء مكشوفات الوجوه ويلبسن لباسا متجانسا تزينه قطعة ثوب تغطي نصف أجسادهن تعرف ب،،ثاكايث،،(الغنسة)،
يتقين بها الحر عند الضرورة أو يحولنها إلى جراب يحملن فيه بعض المقتنيات ثم يحكمن ربطها على الظهر قبل أن تتحول إلى مجلس أثير للأحفاد المحظوظين خارج أيام السوق!
غير أن أهم ما يميز هؤلاء النساء،هو ذلك الطيب الذي يتضوع منهن والذي يصنعنه من مواد نباتية محلية خالصة باستثناء السواك.
وقبل أن يفوتهن الوقت، فإن المتسوقات كن يتحلقن حول عجوز ظلت على مدى عقود من الزمن معلمة من معالم السوق.
إنها المرحومة،،الداودية،، وهي شريفة من ،،لمقام،،السفلي.
كنت أصادف هذه المرأة عند عودتي من مدرسة ،،عين سالم،، الابتدائية في أماكن محددة وسط الأسبوع وهي منهمكة في الحفر لجمع جذور نبات،،سرغينة،،الذي كانت تحضر منه بعض الأدوية لتبيعها يوم السوق إلى جانب الكحل.
كانت المرحومة،،الداودية،، تتوجه كذلك نحو مغارة من مخلفات منجم قديم للرصاص اشتهر ب،،إفري نتزولت،،(غار الكحل)،فتستخرج منه قطعا من مادة التجميل هذه،لكن مكان تواجدها ظل لغزا حتى الآن!
لقد كانت هذه المرأة توفر على نساء القبيلة عناء البحث عن وسائل التجميل خارج البلدة،لذلك كان من المألوف أن ترفض بعض النساء ما يعرض عليهن من إثمد إلا إذا كان من تحضير،،الداودية،،!
وإذا كان مجال تحرر المرأة القروية قد اتسع في أيامنا،فإنه بالمقابل لم ينعكس على عدد المتسوقات الذي تراجع إلى حد كبير بعدما تيسر الذهاب إلى المدن المجاورة بفضل توفر المواصلات وضيق السوق المحلي عن توفير اختيارات كثيرة.
ولعل التغيير الذي غدا ظاهرا للعيان،يتجلى في اختفاء آلاف الدواب التي كان يستعملها المتسوقون بسبب تعدد وسائل المواصلات مما فوت علي فرصة أخرى،حيث كنت أعود من السوق أحيانا بمعية والدتي ومجموعة من مرافقاتها لأستمتع بما يدور بينهن من أحاديث تضفي عليها السذاجة والفطرة ملحا إضافيا مما يحولها إلى مسلسلات ترتق حلقاتها زوال كل يوم خميس.
وكما تحول السوق وغاب عنه أولئك البسطاء الذين ظل لقاؤهم الأسبوعي عيدا حقيقيا، فقد غاب جيل كامل من المتسوقات التي كنت أحرص على أن أجمع بعضا من شتاته خلال زياراتي قبل وفاة والدتي فأتولى أداء،،فاتورة الشاي والفول السوداني والخبز أو البطيخ في أوقاته،،انتقاما للغبن الذي عانت منه هؤلاء الفضليات مقابل دعوات خير صادرة من قلوب طاهرة!
Aucun commentaire