جرادة : آبار الموت تخطف ضحية جديدة في مدينة تصرخ من اجل بديل اقتصادي.
لم تكد تنتهي مسيرة النعوش التي شارك فيها الشهيد عبد الرحمن زكرياء ، حتى انضاف نعشه الى قائمة النعوش 43 . الشهيد عبد الرحمن الذي شارك الشباب الذين كانوا يصنعون تلك النعوش لم يكن يدري انه سيكون واحدا من النعوش التي تتكرر في مدينة ابار الموت القاتلة ، لم يكن يدري انه سيكون عريس احدى تلك المسيرات التي انطلقت من حاسي بلال في اتجاه ساحة الشهداء حيث كان يحضرها بملابسه الملطخة بالسواد من اجل البديل الاقتصادي الذي يحلم به الجميع ، وكأنه قدم نفسه فداء وتضحية حتى تصل الرسالة بعد التجاهل والصمت من طرف المسؤولين .
لقد اصبحت المدينة تتحسس الموت في كل لحظة فلا بديل لأبناء الاسر غير الحفر حيث يتربص الموت بهم يوميا في غفلة عندما تطبق الارض عليهم ، فالحيز الضيق الذي يشتغلون فيه على بطونهم لا يترك لهم مجالا للنجاة ، فالثقب الذي يصل بهم الى الاعماق لا يتجاوز المتر المربع والذي يضيق في الاسفل حيث لا يتجاوز45 سنتمترا وبوسائل بدائية يستخرج الفحم من اعماق تتجاوز 40 مترا ما يصعب عملية الانقاّذ الذي لا يكون الا بفضل اولئك الذين خبروا تلك الأغوار وتعايشوا مع الحفر في الاعماق ، وليس من السهل على رجال الوقاية المدنية الذين يستحقون كل التقدير والتنويه التعامل مع هذا الوضع ، لأنه لم تـُوفر لهم الخبرة والمعدات لمواجهة عملية انقاد او انتشال مثل هكذا وضع ، ولأن عملية الانقاذ هي في حد ذاتها مغامرة محفوفة بالمخاطر ، لهذا يكون اصدقاء الضحايا هم من يخوضون مغامرة انقاذ او انتشال الضحايا .
هكذا ينزل الموت على المدينة كالصاعقة لأنه موت من نوع خاص يأتي مفاجئا بلا استئذان ، موت من اجل رغيف اسود ترتجف له كل قلوب ابناء المدينة ، فتتحسس له الأمهات والآباء والاخوة والجيران … فيهرع الجميع الى مكان الحادث في انتظار انتشال الضحايا .
لم يكن من الهين على مدينة عاشت 20 سنة من التهميش ، حيث منذ 2002 بدأ اقبار البديل الاقتصادي لتدخل المدينة رحلة الاستعباد والاستغلال والموت المجاني ، ولم يكن من السهل القبول بهذه الفواجع التي تتكرر، كل هذا ترك حالة نفسية من جراء التهميش والاحباط الى ان حان الوقت ليخرج الجميع يصيح وينادي ببديل اقتصادي … فكيف لا تخرج أم مثل أم جدوان وحسين او أم عبد الرحمن لتحتج والحرقة تقطع كبدها عن ابنها الذي مات هذه الميتة التراجيدية ، فالشهيد عبد الرحمن منذ 14 من عمره وهو يخوض هذه المغامرة اي 18 سنة من عمر البديل الاقتصادي الموعود ، لم يجد من بديل غير ابار الموت القاتلة ، الى ان انتهى به الأمر تحت الردم ، كان عليه ان يقضي يومه تحت الأرض من اجل 70 درهما ليعول بها والده المريض وامه المسنة واخوانه الذين يدرسون و … هذا المدخول الهزيل تلتهمه فواتير الماء والكهرباء التي لا تبقي إلا القليل لمصاريف العيش الباهضة ، ولقد راينا كيف ان مغاربة بسيدي مومن افقر حي في الدار البيضاء ينتحرون لأنهم لا يجدون ما يسددون به فواتير الماء والكهرباء ، ورأينا كيف ان نساء تموت في معابر الدل والموت بحثا عن رغيف خبز ممرغ بالذل والهوان ، وفي بولعلام كيف تموت نساء من اجل قليل من الطحين والزيت والسكر … راينا كيف ان الموت يختطف المغاربة حيث يوجد التهميش والفقر حيث تنتهك وتداس الكرامة الانسانية …
هكذا انتفضت جرادة بكل تلاوينها منذ ما يفوق الشهر صارخة كفى من هذا القتل المادي والمعنوي في حق اناسها وفي حق المدينة ، ولم تكد تهدأ هذه الصرخة حتى أيقضها الموت من جديد وكانت مرة اخرى الوجهة الى المقبرة حيث يرقد الضحايا والى ساحة الشهداء حيث تتعالى الأصوات مطالبة ببديل اقتصادي واجتماعي مغتال ومدفون يأبى ان تنقشع اضواؤه في سماء المدينة لكي يمحو شيئا من السواد ، ولأن المدينة تنشد بديلا تنمويا لقد حسمت ساكنة جرادة في الوطنية والسلمية ، كل هذا بوعي حتى لا يكلف احد نفسه اتهامات ومزايدة ، فالسلمية اصبحت سلوكا لا ينفصل عن الوطنية حيث لا يمكن ان تكون تنمية الا في اجواء من الاستقرار والأمن .
فواجع الموت والغبن والتهميش هي الوقود الذي ظل يحرك الجميع من نساء وشباب وشيوخ واطفال ولم يتخلف احد عن هذه المعركة التي اصبحت مصيرية ، فالحراك ليس صناعة أيديولوجية إسلاموية وليس سياسوية يسراوية وليس مخزنة مبطنة ، إنه الألم الذي يعتصر الأمهات من امثال أم جدوان وحسين اللواتي خرجن بكثافة وبانتظام وانضباط ، الأمهات الجريحات مثل ام عبد الرحمن التي قالت : ابني قد مات واتمنى الخير للباقين ، فهي بقلب الأم تعرف انه في غياب بديل اقتصادي فان الموت سيستمر يترصد الشباب ، لهذا احبت ان تقول كلمتها بثبات وقوة أمام هول الفاجعة التي ابكت الرجال وانهار امامها الشبان …
فهل كل هذا الموت والنعوش المتتابعة لم يدرك بعد المسؤولون انه لا بد من بديل اقتصادي حقيقي لا بد من انصاف تنموي مجالي سينهي الموت وسيوقف الجراح الغائرة في الصدور…
Aucun commentaire