علاقة الرعية بالراعي في الإسلام من صميم التدين فليحذر الذين يقيسونها على علاقة المحكومين بالحكام في غير ملة الإسلام
علاقة الرعية بالراعي في الإسلام من صميم التدين فليحذر الذين يقيسونها على علاقة المحكومين بالحكام في غير ملة الإسلام
محمد شركي
من الملاحظ خلال السنوات الأخيرة خوض البعض في موضوع نظام الحكم في المغرب خصوصا كلما حلت ذكرى تربع جلالة الملك على عرش البلاد . والملاحظ أيضا أن بعض الخائضين في هذا الموضوع يكشفون من خلال خوضهم عن مرجعيات لا تمت بصلة إلى ديننا أو ثقافتنا الإسلامية بل يخوضون في قضية إسلامية بتحاليل غريبة عن طبيعة الإسلام ، ويقيسون القيادة في المجتمعات المسلمة على القيادة في غيرها ، وهو قياس خاطىء ولا يستقيم . فمن المعلوم أن الانتماء لدين الإسلام ـ وهو منهاج حياة ـ يغطي كل جوانب الحياة ويفرض على المنتمين إليه تصورات وسلوكات ومواقف خاصة بهم تختلف عن تصورات وسلوكات ومواقف غيرهم ممن تحكمهم أديان وعقائد وإيديولوجيات وثقافات أخرى . والإنسان المسلم ينهل من مصدرين هما : كتاب الله عز وجل ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . وكل فكر مهما كان مصدره يواجه الإنسان المسلم في حياته يعرضه على هذين المصدرين ، فإن وافقهما دخل في دائرة ما هو فطري فطر الله عز وجل الناس عليه ، وإن خالفهما كان خارج دائرة دين الفطرة . وهذه القضية يجهلها أو يتجاهلها كثير من المحسوبين على الإسلام ، ذلك أنهم حين يرون المسلمين يأخذون عن غيرهم ما يندرج في إطار الفطرة البشرية السليمة يظنون ذلك تقليدا أعمى أو استلابا حتى بلغ الأمر عند البعض حد إنكار أخذ المسلمين عن غيرهم أسباب التطور والرقي المادي والمعنوي لاعتقادهم أن الإسلام دين منغلق لا يقبل بأسباب التطور والرقي ، وربما سخر هؤلاء من المسلمين وهم يوفقون بين تدينهم ومشاركة غيرهم في نمط حياتهم دون الانتباه إلى أن ما يقوم به المسلمون مع تطور الحياة البشرية هو عرض كل ما يجدّ في حياتهم على كتاب ربهم وسنة نبيهم لقياس درجة فطرية هذا الذي يجد في حياة الناس . وهذا القياس هو الذي يجعل المسلمين في هذا العصر يقبلون مما يجد في حياة الناس ويرفضون . ولهذا تراهم يقبلون ما لا يخالف الفطرة السليمة ويرفضون ما يخالفها ،وتوجد أمثلة كثيرة على ذلك منها على سبيل المثال لا الحصر أنهم يشاركون غيرهم في كثير من السلوكات الفطرية ،ولكنهم يرفضون بعضها كالمثلية مثلا وهو سلوك مخالف للفطرة السليمة . ومشكل الغير خصوصا في المجتمعات الغربية العلمانية أنهم لا يريدون الاعتراف بخصوصيات الإنسان المسلم، ويحاولون فرض أنماط تفكيرهم وسلوكهم عليه اعتقادا منهم أنهم النموذج الذي يجب أن يسود ويحكم وأن النموذج الإسلامي متخلف عن الركب الحضاري الإنساني ، وهو ما تدحضه شرائح عريضة من بني جلدتهم الذين اعتنقوا الإسلام لما فيه من التزام بالفطرة السليمة التي أخلت بها تعاليم العلمانية .
وانطلاقا من الخلفية العلمانية يخوض بعض المحسوبين على الإسلام في قضايا إسلامية، فيأتون ببوائق مثيرة للسخرية ، ومعبرة عن جهلهم المركب بالإسلام . ومن هذه القضايا قضية نظام الحكم في الإسلام حيث يقيسونه على نظام الحكم في المجتمعات العلمانية ،فلا يستقيم لهم القياس ، ويصدرون أحكام باطلة على نظام الحكم في الإسلام ،ويرونه عبارة عن شمولية وديكتاتورية وما شابه، وكل ذلك محض افتراءات لا أساس لها من الصحة . ومن المعلوم أن الإسلام الذي جاءت به الرسالة التي ختمت بها الرسالات السماوية السابقة، والتي صدّقتها وهيمنت عليها ،وكانت بذلك رسالة عالمية للناس كافة يغطي كل جوانب الحياة البشرية وإلا لن يكون دينا عالميا إن خرجت من تغطيته أمور من هذه الحياة ، إنه منهاج حياة لا يغادر صغيرة ولا كبيرة منها إلا بث فيها للمحافظة على فطرية الإنسان وكرامته . ومما يغفل عنه الكثيرون أن الإسلام يضفي على ممارسة البشر للحياة مهما كانت هذه الممارسة صفة التعبد بحيث يرتبط الإنسان بخالقه سبحانه وتعالى حين يمارس الحياة ، فتبدو ممارسة الحياة عنده عبارة عن صفقة أو علاقة بين خالق ومخلوق . وحين يتعامل الناس فيما بينهم يكون للخالق حضور معهم ،وهو حضور يضبط علاقاتهم بميزان العدالة والإنصاف والقسط . وهذا ما يجعل ممارسة الحياة عند الإنسان المسلم عبارة عن تدين وطاعة وعبادة ، ولا يخلو زمن من عمر الإنسان المسلم من تدين وطاعة أو عبادة .
وانطلاقا من هذه القناعة أو النظرة يناقش نظام الحكم في الإسلام ، فهو علاقة بين الراعي والرعية بمعية وحضور الخالق سبحانه وتعالى . ويؤكد ذلك قول الله عز وجل مخاطبا عباده المؤمنين : (( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم )) حيث جعل الله عز وجل طاعة أولي الأمر وهم الرعاة من طاعته ومن طاعة رسوله الذي تلقى منه وبلّغ عنه ، وهذا يجعل العلاقة بين الرعاة والرعايا تدينا أي طاعة وعبادة . ولا يمكن بحال من الأحوال قياس علاقة الرعاة غير المسلمين برعاياهم بعلاقة الرعاة المسلمين برعاياهم أو بتعبير آخر لا يمكن قياس نظام الحكم في الإسلام بأنظمة الحكم في غيره . ونظرا لوجود أو حضور أو معية الخالق سبحانه في علاقات المخلوقات، فإنه قد ضبط بعدله وقسطاسه العلاقة بين الراعي والرعية، ولم يترك لهذا الطرف أو ذاك هامش للبغي على بعضهما البعض لأن الطرفين معا في علاقتهما مع بعضهما يستحضران معيته وهما في حالة تدين أو عبادة وطاعة في علاقتهما مع بعضهما.ولهذا توجد في دين الإسلام إمارة المؤمنين والبيعة وهو ما لا يوجد في غيره من الأديان والمعتقدات والإيديولوجيات والثقافات . وإمارة المؤمنين والبيعة عبارة عن تدين وطاعة ، ذلك أن الأمة الإسلامية لا يمكن أن تبقى دون إمارة وقد نص القرآن على وجودها حين ذكر » أولي الأمر » كما أنه لا يمكنها أن تبقى بلا بيعة وقد نص القرآن على طاعة الإمارة، وجعلها من طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم . ومعلوم في دين الإسلام أنه من لقي ربه وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية أي على غير ملة الإسلام كما جاء في أحاديث نبوية شريفة منها قوله عليه الصلاة والسلام : » من كره من أميره شيئا فليصبر عليه، فإنه ليس أحد من الناس خرج من سلطان شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية » ويستشف أو يفهم من هذا الحديث أن ترك البيعة، وهو خروج من سلطان هو معصية في حكم الردة لأن الميتة الجاهلية هي ميتة على غير ملة الإسلام . ويؤكد ذلك حديث نبوي آخر يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم : » من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعص الأمير فقد عصاني » وهذا الحديث فيه تأكيد لقول الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم )). وإذا كانت طاعة الله عز وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم لا خلاف فيهما ، فإنه يوجد خلاف بين الناس في طاعة أولي الأمر لأن هؤلاء قد تصدر عنهم أمور ينكرها الناس ، وقد تدارك الله عز وجل هذا الأمر مباشرة بعد أن أمر عباده المؤمنين بطاعة أولي الأمر حيث قال : (( فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم يؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا )) وهذه الآية تؤكد أنه لا يوجد شيء في حياة الناس يخرج عما شرع الله عز وجل ورسوله عليه السلام . وورود كلمة « شيء » نكرة يدل على مطلق ما يقع فيه النزاع ،علما بأن النزاع هو شدة الخلاف ، والتنازع يشبه التجاذب بحيث يميل كل طرف متنازع إلى رأيه ويتشبث به، ولا يحل هذا النزاع سوى طرف ثالث هو الله عز وجل ورسوله أي القرآن والسنة . وقد قيد الإسلام الراعي بقيود كما قيد الرعية بقيود حفاظا على مشروعية الإمارة أو الإمامة العظمى وعلى مشروعية البيعة . فالراعي إذا ساس الرعية بشرع الله عز وجل كان أول السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما إذا غشهم أي ساسهم بغير ما شرع الله ، فإنه يدخل النار كما جاء في حديث آخر يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة » . والرعية مأمورة بأداء واجب البيعة والطاعة ما لم يأمرها الراعي بنقض طاعة الله عز وجل أو معصيته لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : » على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة » . ولقد حدث أن أمر الصحابي عبد الله بن حذافة الذي ولاه النبي صلى الله عليه وسلم قيادة سرية للأنصار رجال سريته باقتحام النار، وكان قد غضب منهم ، وأراد إرغامهم على الطاعة فأبوا طاعته في ذلك ،ولما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم قال : » لو اقتحموها ما خرجوا منها أبدا » بمعنى أنه لا طاعة إلا في معروف . ولقد أكد الحديث النبوي الشريف ما أشار إليه القرآن الكريم من احتمال وقوع النزاع بين الراعي والرعية حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ستكون أثرة وأمور تنكرونها ، قالوا : يا رسول الله فما تأمرنا ؟ قال : تؤدون الحق الذي عليكم ، وتسألون الله الذي لكم » فهذا الحديث يشير إلى احتمال وقوع الأثرة والأمور التي قد تنكرها الرعية ،ومع ذلك أمر الرعية بأداء الحق الذي عليها وهو البيعة والسمع والطاعة في غير معصية ، وسؤال الله عز وجل الحق الذي لها، وهو ما يعني رد الراعي إلى الكتاب والسنة في حال النزاع معه كما أمر سبحانه وتعالى . ولقد جعل الله عز وجل الإيمان به وباليوم الآخر وازعين يزعان الراعي والرعية على حد سواء للرجوع إلى كتابه وسنة نبيه فقال : (( فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ))
ولم يجز الإسلام تجاسر أو تطاول أو خروج الرعية على الراعي أو إهانته أو العبث بشخصه لأنه يستمد قداسته من قداسة الإمامة العظمى والإمارة التي هي طاعة وعبادة، ولو لم تكن كذلك لما ألزم الله المؤمنين بطاعة أولي الأمر كطاعته وكطاعة رسوله . ومما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم إهانة السلطان حيث قال : » من أكرم سلطان الله أكرمه الله ، ومن أهان سلطان الله أهانه الله » وهذا مما تخالف به الأمة الإسلامية غيرها من الأمم التي تخرج على ولاة أمورها وتتجاسر وتتطاول عليهم ، وتهينهم ،وتعبث بهم . ولهذا لا يحق للمؤمنين أن يقلدوا أو يحاكوا أو يجاروا غيرهم من الأمم في تجاسرهم وتطاولهم وعبثهم بولاة أمورهم لأن القضية عندنا قضية تدين وعبادة وطاعة قبل كل شيء لا مجال فيها للعبث .
وبناء على هذا يعتبر الخوض في موضوع الحكم في الإسلام بالمنطق العلماني مردودا على أصحابه . ومن أساليب هذا الخوض المنحرف عن نهج الإسلام محاولة الطعن في البيعة من خلال انتقاد الطريقة التي تؤدى بها حيث يركز المنتقدون على انحاء الرعية أمام الراعي وتقبيل يده أو صدره مع أن ذلك من علامات الاحترام والمحبة ، ويحاولون تشبيه هذا الانحناء بالركوع في الصلاة وهذا تشبيه سخيف إذ لا يقبل الراعي وهو الذي ينحني في ركوعه لله عز وجل أن يكون انحناء المبايعين له بمثابة انحناء ركوع الصلاة ،وأن يتخذ شريكا لله عز وجل في الركوع . أما تقبيل اليد فهو علامة محبة ليس غير، ذلك أن الناس دأبوا على تقبيل أيادي من يحبون من آباء وأمهات ومربين ومعلمين وكبار السن توقيرا لهم دون أن يفسر ذلك غير تفسير المحبة . ومن سخف بعض منتقدي تقبيل الرعية يد الراعي أنهم يرون عند غيرهم من الأمم من يقبل يد المرأة الأجنبية ويعتبرون ذلك تحضرا وتعبيرا عن الاحترام في حين ينكرون تقبيل يد الإمام الأعظم وأمير المؤمنين ولا يقبلون أن تكون دلالة ذلك التقبيل مجرد محبة واحتراما .
وبقي أن نشير في الأخير إلى ما يروجه بعض السفهاء الذين توظفهم جهات مغرضة من دعوة لاتخاذ مناسبة عيد تربع جلالة الملك على عرش البلاد فرصة للتظاهر أو ما يسمونه بالحراك في إشارة واضحة إلى سوء الأدب مع الله عز وجل أولا ،ومع من ولاه الله الأمر وأمر بطاعته ثانيا ،ومع الشعب المغربي المسلم الملتزم بطاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر . ولا يفوتني أن أشير أيضا لى أن رفع خرق غير العلم الوطني الذي هو موضوع إجماع الأمة المغربية يعتبر استفزازا لمشاعر الشعب المغربي الوطنية ، ودعوة سافرة للفرقة وتكريسا للطائفية والعصبية التي تبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن يدعو إليها حين قال : » ليس منا من دعا إلى عصبية » .وفي حديث آخر : » من قتل تحت راية عمّية يدعو عصبية أو ينصر عصبية فقتلة جاهلية » .
Aucun commentaire