مذكرات استاذ متقاعد : شهادة في حق المرحوم عبدالرحمن حجيرة
ان الاشتغال بالسياسة عبرالتنظيمات المعروفة وعلى راسها الاحزاب، يقتضي أن يجسد رجل السياسة الخط الذي ينهجهه تنظيمه عبر سلوكاته اليومية ومواقفه، مما يحول العمل السياسي الى التزام.والعقلاء يقولون ، ان من التزم بشيء لزمه.
لم تخل ساحتنا السياسية من هذه الطينة من الرجال الذين تجرعوا ماهو أقسى من العلقم ليظل موقفهم ثابتا، وان كان هؤلاء يكادون يضيعون في زحمة تجار السياسة الذين ضاقت بهم الارض.
ان الناس في النهاية احرار في اتخاذ المواقف التي قد تخيب امالنا، لكننا انتهينا اليوم الى الاكتفاء بالتفرج والصمت وامامنا أشخاص يتقلبون في التيارات السياسية كما تتقلب ألوان الحرباء مع فارق واضح وهو أن هذه الأخيرة تدافع عن وجود بينما يبحث الساسة عن مكاسب يقايضونها بماء الوجه!
لست محللا سياسيا ولا متحزبا حتى أدلي برأي، ولكنني تذكرت موقفا لأحد وجوه مدينة وجدة البارزين سيظل راسخا في ذهني رغم اني لا اتبنى افكار حزبه بقدر ما احترمها.
عندما حللت برفقة بعض زملائي لمتابعة الدراسة بثانوية عبد المومن أوائل السبعينات من القرن الماضي، كانت تداعيات نكسة حزيران على كل لسان ، كما لاءات مؤتمر الخرطوم الثلاثة.
كنا قد بدأنا نستوعب بعض الأحداث دون المام بخباياها ، وان كنا نلتقي مع الاخرين في تبني القضية الفلسطينية التي تماهى معها الشعب المغربي حتى صار يؤدي لصالحها ضريبة في مادة التبغ!
لا أتذكر كيف انتهى الى علمنا أن مثقفي المدينة ومحبي فلسطين سيكونون على موعد مع محاضرة قيمة يلقيها أحد الأطر العليا في منظمة التحرير الفلسطينية، مما جعلنا نوطد العزم على الحضور.
كان اللقاء بقاعة البلدية، وحضره جمع غفير من كل الفئات الاجتماعية حتى ضاق بهم المكان.
وقبل شروع الضيف الفلسطيني في القاء محاضرته، تقدم رجل في غاية الاناقة لتقديمه، ولم يكن ذلك الأنيق الا الأستاذ عبد الرحمان حجيرة- تغمده الله برحمته- والذي لم تكن معرفتنا به تتجاوز أنه مقاوم سابق، واستاذ بثانوية الوحدة.
كان التقديم بحماس وتشويق الرجل السياسي المحنك، مما جعلنا نولي اهتماما قويا لموضوع المحاضرة.
كان المحاضر كما باقي أطر منظمة التحرير بارعا في تشخيص وضعية الفلسطينيين والامة العربية عموما مما جعل جرح الانتكاسة يزداد لوعة بعدما عرى الرجل الحقائق وجعلنا نشعر بالمسؤولية عما قصر فيه ساستنا الذين اتيح للعجوز الشمطاء ،، غولدا مائير،، أن تعربد بعواصمهم وتمرغ كبرياءهم المصطنع في التراب.
انتهى المحاضر ، ولم تنته تبعات كلامه، حيث بكت العديد من العيون، بينما غلب الذهول على الاخرين وهم يقفون على معاناة اخوان لهم في العروبة والدين و…لكنهم لا يملكون حيلة.
في تلك الأثناء، وفي غمرة التصفيقات التي اعقبت المحاضرة ، وبعد الاجابة عن الاستفسارات، انتفض سي عبد الرحمان حجيرة من مكانه ليخاطب الحاضرين:
ان قلوبنا جميعا مع اخواننا الفلسطينيين الذين عرفتم الان هول ما يعيشونه، لكن البكاء والحماس لن يطعما جائعا، ولن يشفيا مريضا، بل ان محبتنا لاخواننا ، يجب ان نعبر عنها بمساهمة مادية حتى لا يضعوا سلاح المقاومة جانبا، وحتى لا استثني نفسي ، فانني أفتتح الاكتتاب بمائة درهم شرط ألا اكون على رأس اللائحة!
قال الرجل قولته وانزوى لينطلق الاكتتاب بحماس منقطع النظير جعل المحاضر يعود مجددا ليعرب عن اعتزازه بشهامة المغاربة الذين يربطون بين الاقوال والافعال على خلاف الأخرين من اخواننا كما اوضح الرجل.
لم يسبق ان تحدثت الى الاستاذ عبد الرحمان حجيرة رغم شعبيته ولا ارتبطت مع حزبه باي علاقة، لكنني لن أنسى ذلك الموقف ما حييت ، لأنه موقف أكبر من الحزب ومن أي تنظيم!
وللتذكير، فان مائة درهم في تلك الفترة كانت تعني ثغرة في راتب الاستاذ الذي كان متواضعا، وهو سلوك لايصح تفسيره الا بشيء واحد: الشهامة.
رحم الله أصحاب مثل هذه النفوس الكبيرة، وجعلها صدمة لنفوس الساسة الحاليين الذين ضاعوا في دروب النزوات التي لا حدود لها.
Aucun commentaire