إلى ذة. المحامية بوجدة : هل المساجد تسبب اليأس والإحباط؟
أحمد الجبلي
في مقال لها بجريدة هسبريس الإلكترونية تحت عنوان: « عاصمة الشرق وجدة..ظلم القدر أم ظلم البشر » اعتبرت الأستاذة المحامية بوجدة أن كثرة المساجد في مدينة وجدة تسببت في الشعور باليأس والإحباط شأنها شأن المقاهي وقاعات الحفلات والمضاربة العقارية لدى العديد من أعلام وأقطاب المدينة الذين لم يجدوا بدا من أن يفروا من هذه المدينة لهذه الاعتبارات.
وقبل الرد على الأستاذة المحامية فيما ذهبت إليه، لابد من الوقوف عند عنوان المقال الذي جعلته في شكل سؤال عمن يتحمل مسؤولية ما آلت إليه مدينة وجدة من تردي اقتصادي وخدماتي وما تعيشه من عزلة وفقر وتهميش، فهل السبب في ذلك راجع إلى سوء التسيير (أي العامل البشري) أم إلى ظلم القدر الذي يعني الله تعالى، لأن القدر قدره، أي من الاحتمالات الواردة أن الله تعالى ظلم هذه المدينة بجعلها على ما هي عليه.
وللأسف، فحتى الأميون لا يجرؤون على قول هكذا كلام لكونه تجنيا على الخالق سبحانه، وتحميله مسؤولية ما آلت إليه المدينة، فكيف يعقل صدوره عن محامية مثقفة وكانت فيما هو قريب نائبة برلمانية قدمت البيعة لأمير المومنين، وفق دستور ينص صراحة على أن الإسلام من ثوابت البلاد. كيف تجرؤ هذه المحامية على اعتبار القدر ظالما والقدر قدر الله، وكيف تجهل أن الله تعالى لا يجوز الظلم في حقه (لا يظلم مثقال ذرة) (إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون).
فما أصاب المدينة من تردي واحتقان ونكوص اقتصادي إنما هو راجع للمسؤولين الكبار في هذه المدينة ، والاستاذة نفسها نفسها كانت برلمانية طيلة خمس سنوات فماذا قدمت لهذه المدينة، ولا دخل للقدر في ذلك، وصدق الله حيث قال: (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد). إن تحويل القدر إلى مشجاب نعلق عليه جرائم البعض في حق هذه المدينة هو في حد ذاته جريمة نكراء في حق الله تعالى رب المغاربة أجمعين.
أما عن كون العديد من أعلام المدينة وأقطابها قد غادروا هذه المدينة بسبب وجود المضاربة العقارية وبناء المساجد، وقاعات الحفلات والمقاهي، فيحق لنا أن نتساءل لماذا أقحمت الأستاذة المحامية المساجد وجعلتها من صنف المقاهي وقاعات الحفلات؟ هل صحيح أن المساجد كانت جزءا من الأسباب والدوافع التي أدت بأعلام المدينة وأقطابها إلى المغادرة؟ اللهم إلا إذا كان هؤلاء ملاحدة أو شيوعيين يعادون الدين والمساجد إلى هذه الدرجة، أي لم يتحملوا وجود مساجد في هذه المدينة، أم ترى أن الأمر يتعلق فقط بالأستاذة نفسها لأنها هي من يغيضها وجود مساجد بهذه المدينة بكمية تعتبر هي الحالة العادية والطبيعية في بلاد أمير المومنين وبلاد يوسف بن تاشفين وعبد الله كنون وعلال الفاسي وبلاد جامع القرويين الذي يعد أول جامعة إسلامية في تاريخ البشرية كما ذكر ذلك المستشرق دولفان في كتابه « فاس وجامعتها والتعليم الإسلامي » والتي تخرج منها فطاحلة العلم وأطواد الحكمة كابن غازي، وابن القاضي، وأبي عمران الفاسي، ومحمد بن الحسن البناني، وأحمد بن الخياط الزكاري وغيرهم كثير، هذا الجامع الجامعة الذي امتاز بالنظام التعليمي الجامعي وديموقراطيته وطرق التدريس فيه فكان له شروط دقيقة للتعيين ووظائف التدريس وتخصيص كراسي الأستاذية والإجازات الفخرية، وكان له مساكن جامعية خاصة للطلبة والأساتذة ومكتبات متخصصة للدارسين الجامعيين فقصدها المسلمون وغير المسلمين من شتى أرجاء العالم وخاصة من أوروبا أمثال القس غربرت دورياق الذي أصبح بابا روما فيما بعد، وكان التدريس يبدأ قبل طلوع الفجر وحتى الواحدة بعد منتصف الليل. فكيف يقرن هذا الجامع وسائر الجوامع بالمقاهي؟
ربما لا تعرف الأستاذة هذه العلاقة التنموية التي كانت تربط المساجد بالتنمية والتقدم والازدهار، ولذلك راحت تعتبرها كأنها « بوعو » الذي يخيف الأعلام والأقطاب وبالتالي دَفْعِهم إلى الرحيل من هذه المدينة.
وبما أن الأستاذة تتحدث عن الأعلام فمن خرَّج لهذا الوطن وهذه الأمة أفضل الأعلام والأقطاب في شتى العلوم في الطب والفلك والهندسة والحساب والفلسفة والأدب غير المسجد؟
ويشهد التاريخ بما كان لمساجد بغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة ودمشق والموصل والحواضر الإسلامية الأخرى من دَور عظيم في النهضة الإسلامية الواسعة،
ولذلك كان أول أعمال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بناء مسجد للمسلمين في قباء في أيامه الأولى التي أمضاها في المدينة وبعد انتقاله من قباء إلى المدينة كان أول أعماله كذلك بناء مسجده النبوي، فكان المسجد النبوي هو المدرسة الأولى ودار الدولة الكبرى، وكان المدرسة والجامعة ومقر مجلس الشورى، وعقد الرايات، وتجهيز الجيوش، وإدارة شؤون الأمة صغيرها وكبيرها. فكيف تقرن هذه المعالم والجامعات العلمية بالمقاهي وقاعات الأفراح؟ وكي يعقل أن تكون هذه المنابر المعرفية سببا في هجران الأعلام والأقطاب؟
إن المسجد قام بدوره التعليمي منذ أيامه الأولى وقد حث رسول الله على هذا الدور العلمي بقوله صلى الله عليه وسلم: (من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان كأجر حاج تاما حجه) أخرجه الطبراني، وهذا المقصد التعليمي أوضحه وبينه صلى الله عليه وسلم في حديثه ليفرق بينه وبين البعد الشعائري من إقامة الصلوات في المساجد.
ولم يقتصر الدور التعليمي للمسجد على الرجال بل نافست عليه النساء لما أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قالت النساء للنبي : ( غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما من نفسك، فوعدهن يوما لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن) وفتح المسجد صدره للمرأة كي تشهد دروس العلم ليتأكد حق المرأة في تحصيل العلم ومشاركة الرجل في الحياة، وقد أعجبت السيدة عائشة أم المؤمنين بإقبال الأنصاريات على العلم فقالت: ( نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء من أن يتفقهن في الدين ) وقد ذهب العلامة المغربي عبد الحي الكتاني في كتابه التراتيب الإدارية إلى اعتبار هؤلاء الأنصاريات قد أسسن أول جمعية نسائية في تاريخ البشرية تعنى بتعليم المرأة، وقد اتخذن من المسجد أول مدرسة لهن.
واستمر المسجد في التطور والنمو جيلا بعد جيل ليؤدي مهامه في صناعة الحياة ليصبح جامعات ومنارات علمية وفكرية رائدة، ولم يكن في يوم من الأيام كالمقاهي يتلهى الناس فيها أو يعبثون ويقتلون الوقت شر قتلة.
على الناس خاصتهم وعامتهم، أن يعلموا أن انتشار الأمن والتكافل الاجتماعي والرحمة والرفق بين الناس واحترام الصغير وتوقير الكبير واحترام الوالدين والبر بهما والعناية بالفقير والمسكين والأرملة واليتيم…إنما هي أفعال حضارية راقية جدا، وهي من صلب ما يجعل هذا البلد متآزرا متعاونا يجتنب فيه الناس المخدرات والخمر واللهو والعبث وكل ما يؤدي إلى إتلاف العقل البشري لكونه طاقة معتبرة في التنمية والرقي، كل هذه الأمور وغيرها تعلمناها في مدرسة الحي التي يطلق عليها اسم: المسجد. ولم نتعلمها لا في المقاهي ولا في قاعات الأفراح.
Aucun commentaire