أمريكا وأبشع جرائم الإبادة في تاريخ البشرية – إبادة الهنود الحمر نموذجا-
أحمد الجبلي
عندما قرأت كتاب » أمريكا والإبادات الجماعية » للكاتب اللبناني منير العكش، أحسست وكأنني غبت عن الواقع الذي أنا فيه طيلة يوم كامل، في جولة مرعبة على متن المائتي صفحة التي حواها الكتاب، فشعرت حقيقة أنني هناك، غرب المسيسيبي وفي الغابات والفجاج والحقول والكهوف، كشاهد عيان على أبشع جرائم التاريخ، جرائم ببشاعتها ورعبها سرقت مني النوم لليلة كاملة، و لازلت أحمل في ذهني تلك الصور البشعة لتطهير عرقي، وإبادات جماعية لم يفعل مثلها هتلر ولا ستالين ولا هولاكو ولا بوكاسا ولا بينوشي ولا حتى الدكتاتور المجرم السيسي بطل محرقة رابعة الأليمة.
و صعب علي التصديق بأن في هذا الوجود يمكن أن توجد وحوش بشرية مفترسة كل هذا الافتراس، كما صعب علي أن أصدق أن أمة كاملة يمكن أن تُجمع وتتواطأ على الإبداع والتفنن في القتل، وتعقد دوريات ومسابقات ومباريات لتحديد من الأبشع و الأكثر سرعة في سلخ الجلود البشرية، أو من يكون الأكثر إبداعا في التمثيل بالجسد البشري، أو الأفضل في الإتيان بأفكار إبداعية حيث يستطيع أن يخرج عن المألوف كصناعة علبة سجائر من خلال عضو بشري معين، أو سلخ جلد على شكل شرائح طويلة دون أن تتمزق، أو من يستطيع أن يصنع لفرسه سرجا من جلد هندي أحمر؟ ومن يستطيع تقطيع أوصال وأطراف الجسد البشري وجمعها متناسقة في ركام، أو من ينتصر على منافسيه و يقوم بتقطيع الأنوف أو الآذان أو الفروج حتى تجفف وتعلق في أعناق الحسناوات، أو حتى تهدى للعرسان والمقبلات على الزواج، أو تعلق لتصير هدفا للرماة، فصار الناس يتنافسون من أجل الحصول على جوائز مالية قيمة ومغرية، حتى وصل الإبداع بأحدهم أنه يستطيع أن يقوم بسلخ رجل هندي أحمر من فروة رأسه إلى أسفل قدمه ويتركه ينزف ويتألم حتى الصبح، فيتحول هذا الإبداع إلى نمط جديد من المسابقات فيتنافس الشباب من يستطيع أن يفعل مثل ذاك لكن قانون المسابقة يقول يبقى الهندي أطول مدة على قيد الحياة نازفا متألما حتى يفارق الحياة، والجائزة المالية حينها ستكون أفضل. دون أن نتحدث عن جرائم أخرى كحرق آلاف المحاصيل والمساكن والقرى وتشريد سكانها ليتيهوا في الغابات والكهوف لتبدأ عملية المطاردة كما يطارد البقر الوحشي، ورمي الأطفال الصغار أحياء لتنهشهم الكلاب وبقر بطون الحوامل وإخراج الأجنة أحياء يتحركون، ومن أخطر وأبشع وأفضع ما هنالك من إجرام عندما كان هؤلاء المسيحيون الإنجيليون المستعمرون يعقدون الصلح ويبرمون الاتفاقيات مع بعض الفصائل من الهنود، فهذه الاتفاقيات كانت لسببين اثنين: الأول هو لربح الوقت حتى يتسنى لهم سن السيوف والخناجر الطويلة حتى يتقنوا فعل الإبادة، والثاني حتى يسعهم أن يعبروا عن حسن نية فيتقدموا للهنود بهدايا كثيرة هي عبارة عن بطانيات ودقيق ولحم، فأما البطانيات فتحمل الجذري والطاعون والأمراض الفتاكة، وأما الدقيق واللحم ففاسد ونتن وموبوء. إن كل سفاح من هؤلاء السفاحين من الرجال البيض يعتقد جازما أنه بأفعاله الدموية الإجرامية الهمجية تلك إنما يتقرب إلى الله وهو موقن أن الرب في عليائه يتمجد فرحا وسرورا ورضا عما يفعله هؤلاء المستعمرون لأنهم شعب الله المختار، وهذه الأرض هي الأرض الموعودة أرض الميعاد قد عادوا إليها بمشيئة الرب.
إن هذا الانحراف الديني الأمريكي الصهيوني لم تصل إلى مستواه فرق الخوارج ولا فرق داعش ولا الكانيبال ولا الموتى الأحياء المشهورة في أفلام أمريكا. إنها خصيصة الصهيونية الأمريكية الأنكلوساكسونية، والتي يدل التاريخ الحديث على أنها لازالت حاضرة في ذهن الأمريكي وفكره ومعتقده، وبعد الإبادة التي تعرض لها أزيد من 112 مليون هندي أحمر والذين يمثلون أزيد من 400 أمة وشعب، جاءت إبادات أخرى، ومن حين لحين يتقدم أحدهم بشهاداته، كما فعل جون كيري وزير الخارجية الأمريكي الحالي، على ما وقع في فييتنام وأفغانستان والعراق من جرائم تدل على أن الصهيونية الأمريكية هي هي ولا يمكن أن تتغير أبدا، لأن وحشها الذي يعيش في عروقها وأحشائها لا يقوى ولا يسمُن إلا بلحم الفرائس الآدمية.
لقد عملت الصهيونية الأمروساكسونية على قطع اليد التي رحبت بها عندما رست سفينة » ماي فلور » في وقت كاد يهلك الحجاج الإنكليز، القديسون، كما يسميهم التاريخ الأمريكي الرسمي، الفارون من المملكة المتحدة حيث طاردتهم لعنة الملك جيمس، فوجدوا في استقبالهم شعوبا مسالمة محبة إنسانية متحضرة مبدعة في الزراعة وكريمة كرما لا مثيل له، فسقوهم وأطعموهم وذبحوا الديكة استقبالا وترحيبا، وبمعنى مختصر: لقد أنقذوهم من الموت والهلاك، ولما شبع الوحش الضيف عاد على أهل الدار بالقتل والإبادة، وما بقي منهم، فيما بعد، أبادوه ثقافيا حتى يقبل بالتعايش وسط هؤلاء الذئاب، وبنوا على جثثهم « أمريكا الجديدة » كنعان الجديدة »، ولم ينسوا أن يجعلوا من هذا اليوم عيدا سنويا هو » عيد الشكر » أي شكر الله الذي أنجاهم من أجل تنفيذ الرسالة المقدسة التي هي قتل وسلخ هؤلاء السدج الذين أنقذوهم من الموت والهلاك، ولازال هذا العيد » عيد الشكر » عيدا تحتفل به جميع الأسر في أمريكا، وبعد قرنين أو ثلاثة، وبعد بداية تطور آليات التواصل وبناء المجتمعات وتأسيس الدولة الحديثة، أخذ الأمريكيون يعملون على إخفاء هذه الجرائم فصنعوا أفلاما هوليودية من أجل تشويه صورة هؤلاء الكرام فصوروهم حفاة عراة متوحشين ينبت في رؤوسهم الريش ويعوون في البراري كما تعوي الضباع. ومن سخرية الشعب الأمريكي المتحضر أن أطفاله لحد الآن لازالوا يعتقدون أن الهندي الأحمر ينبت له الريش في رأسه عوض الشعر. في حين أن هؤلاء الهنود هم من علموا المستعمرين الإنكليز كيفية استعمال الماء من أجل الاستحمام، كما علموهم الزراعة، خصوصا زراعة الذرة والقمح والبطاطا، وكما يقول مورتون صاحب كتاب » كنعان الجديدة الإنكليزية »: » أرض الهنود الحمر أجمل من الحدائق العامة في انكلترا ». إن التاريخ الذي حاولت أمريكا إخفاءه أظهره الله ليبقى شاهدا على جرائمهم ووحشيتهم، وشاهدا على دهشتهم مما وجدوا الهنود الحمر عليه من أفكار وتقنيات وشرائع وعادات وفنون وفلسفة حياة وأساليب بلاغية وفصاحة لسان. ففي سنة 1727 نشر العالم الإيرلندي كادولادر كولدن كتابا يعتبر من أندر الشهادات على النظام السياسي والاجتماعي والتقدم التقني والرقي الفني والخطابي لدى الهنود الحمر. وفي كتابه « تاريخ الأمم الهندية الخمس » لم يتحرج من إبداء افتتانه ولم يكبح جماح إعجابه بهم، فقد قارنهم بعظماء سياسيي الرومان واليونان وخطبائهم وأبطالهم بل قال عنهم أنهم يتفوقون على الرومان واليونان تفوقا عظيما.
إن الأفلام الوثائقية التي تعرض على السياح في أمريكا، والدليل السياحي في تمثال الحرية يذكران، تزويرا، على أن تلك القلة القليلة من الهنود الذين سبقوا الرجل الأبيض الإنكليزي إنما قتلوا أنفسهم بأنفسهم في حروب متكافئة شريفة كانوا هم المسؤولين عنها وعن أضرارها أو أنهم ماتوا قضاء وقدرا بالأمراض التي حملها الأوربيون معهم دون قصد (دون قصد). أو تجد في الكتب المدرسية الأمريكية حديثا عن الأضرار الهامشية التي تقع عادة عند بداية أي حضارة.
فصاحب الكتاب هو منير العكش كاتب وباحث وناقد عاش في أمريكا لأزيد من 25 سنة، متخصص في الثقافة الدينية والسياسية الأمريكية، ومهتم بما يشبه الهوس بتاريخ الهنود الحمر وبالصهيونية المسيحية، أي غير اليهودية المعروفة، أصدر مجلة » جسور » بتعاون مع منشورات سيراكوس بنيويورك، وعمل طويلا في الصحافة الثقافية والعلمية وأسس وتولى تحرير مجلتين علميتين: » 2000″ في لندن و « الصفر » في باريس.
ومن أهم كتبه رباعيته التي تضم: أمريكا والإبادات الجماعية، قيد العرض، وأمريكا والإبادات الثقافية، وأمريكا والإبادات الجنسية – 400 سنة من الحروب على الفقراء والمستضعفين في الأرض. ثم كتاب » تلمود العم سام ».
فهذا الكتاب لا يعتبره صاحبه كتابا لأنه في نظره عبارة عن شهادة سعى إلى جمع تفاصيلها خلال فترة طويلة من الزمن. وقد ساعده في ذلك فضوله الكبير في معرفة ماذا جرى للسكان الأصليين لأميركا. وألح في أن يعرف كيف قتل المستعمرون سكان قارة بكاملها، وقد علم فيما بعد أن عددهم يزيد عن 112 مليون وينتمون لأزيد من 400 أمة وشعب، ولم يبق منهم حاليا سوى الربع المليون منهم الدكاترة والمهندسون والمحامون ورجال الأعمال لكن لا يزالون يعيشون وقلوبهم دامية يستحضرون في كل اللحظات التاريخية الدموية والاستئصال العرقي الذي قام به هذا الإنسان الأبيض الأمريكي. ومثالا على ذالك في سنة 1970 سألت وزارة التجارة في إحدى الولايات الأمريكية بقايا الهنود الحمر أن يختاروا منهم خطيبا للمشاركة في الاحتفال بالذكرى 350 لعيد الشكر، ولكن بشرط أن تعرض الكلمة على الوزارة قبل قراءتها، واختير هندي يدعى فرانك جيمس لهذه المهمة، فكتب كلمته وأرسلها إليهم، وبالطبع لم يسمحوا له بالمشاركة، وكان مما كتبه هذا الهندي: « هذا يوم عيد لكم وحدكم. إنه ليس عيدي، إنني أنظر إلى ما حدث لشعبي بقلب منفطر، فبعد يومين أو ثلاثة أيام من وصول الحجاج (الإنكليز) بدأوا بسرقة قبور أجدادي ونهب ما لديهم من ذرة وقمح وحبوب. لقد شهد القائد الهندي العظيم ماساسيوت ما فعله الحجاج، مع ذلك هو وشعبه جميعا رحبوا بالمستوطنين وأبدوا لهم خالص الود…إنه لم يكن يعرف أن الحجاج بعد أقل من خمسين سنة سوف يبيدون الشعوب الهندية سوف يقتلونهم جميعا بالبنادق أو بالأمراض. نعم لقد أبادوا طريقتنا في الحياة وقضوا على لغتنا، فلم يبقى منا إلا القليل من الأحياء. وإنني حزين وهذا ليس عيدي ».
هكذا كانت كلمة السيد جيمس الهندي الأحمر الذي لم يستطع نسيان ما فعله المسيحيون الإنجيليون، مثله مثل باقي إخوانه وبني جلدته.
في الوقت الذي يؤلمنا ما لقيته هذه الشعوب المستضعفة، يؤلمنا كذلك الوضع المتردي للوعي عند بعض أبناء أمتنا، ومن تدني مستوى الوعي الانبهار بمنظومة الحقوق التي تدعي أمريكا رعايتها؛ وتشن الحروب لأجلها، فإذا عجز الناس عن قراءة التاريخ واستيعابه؛ أفلا يبصرون الواقع المظلم للتدخلات العسكرية الأمريكية في أكثر بلاد المسلمين؟
وهذا الكتاب يحكي شيئاً من التاريخ الذي مضى بأحداثه ورموزه؛ بيد أنه باقٍ عبر ثقافة تحرك أعظم قوة في عصرنا، ويُعاد استنساخه في بقاع أخرى، فضلاً عن وجود آثاره تحت المباني الحكومية الأمريكية شاهدة على جريمة عظيمة حاول المغتصبون طمسها، أو تزويرها، فما استطاعوا وإن ظلت غائبة أو منقوصة أو مشوهة طوال قرون مضت.
1 Comment
شكر الله لك أخي الأستاذ الفاضل أحمد..وجزاك عنا وعن ضحايا الهمجية الأمريكية أفضل الجزاء على قراءتك لكتاب « منير العكش » واستقرائك لفقراته الدامية،وإنها لعبارات إنسان صدوق ينقل بأمانة للبشرية جرائم شر البرية؛ ممن يقدمون انفسهم للعالم على أنهم المخَلِصون والمنقذون من البدائية إلى الحضارة، ومن الديكتاتورية إلى الديموقراطية، لكن الأيام تكشفت عن الخبث والنفاق والوحشية،حاشا الوحوش البرية- إني لو أردتُ أن اصف هذه الكائنات المتوحشة وقساوة قلوبهم وشناعة أعمالهم في حق المستضعفين من الأمم السابقة والحاضرة لقلتُ: »إن احتياطِي الشر الكامن في المخلوقات كلها منذ الأزل ضُغط في قلب هؤلاء.. » والذي يجعله كذلك هو إبادتهم للسكان الأصليين والأحرار من الشعوب الاصيلة باسم التحضر والرقي الإنساني..فعلوا ذلك بأمة الهنود الحمر وبسكان ناكازاكي وهيروشيما، ومزقوا الوطن العربي وتلذذوا بقتل أطفالهم ونسائهم، وهم منذ ثمانين سنة يرتشفون كأس الشماتة بإبادة الشعب الفلسطيني الأعزل… إنهم المغضوب عيلهم والضالون من الأنجيليين العسكريين الجدد الذين أنشأوا معسكرات لحشو عقول شبابهم وأطفالهم بفكرة التقرب إلى الله بدماء العرب والمسلمين، واستنزال يسوع المخلص لأتباع الصليب ممن سواهم.. إنها أمارات نهايتهم وفنائهم وانحطاط قيمهم وخسارِ مشروعهم أمام خلود رسالة الأسلام، الذي جاء المبعوث بها عليه الصلاة والسلام بالبشرى والأمن واللطف لأهل الأرض المفتوحة..اسمع إليه ، بل أنظر إليه وهو يوصي جُنده بهذه العبارات الحانية الرقراقة المنسابة من مَعين الرحمة الفياض « اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تُـمَثِّلوا، وَلاَ تَقْتُلُوا وَلِيدًا، أَوِ امْرَأَةً، وَلا كَبِيرًا فَانِيًا، وَلا مُنْعَزِلاً بِصَوْمَعَةٍ »