هل من حقنا : أن ننتقل ديمقراطيا من ثقافة البطن إلى ثقافة العقل؟
كانت القبائل العربية في عصر ما قبل مجيء الإسلام تفتخر بولادة شاعر أمام القبائل الأخرى. و يحظى الشاعر برعاية خاصة لأنه الناطق الرسمي باسمها،و بأشعاره يدون أيامها (حروبها) و أنشطتها المختلفة. فهو المؤرخ لقبيلته.وهو المثقف – تجاوزا- في ذلك الوقت.
المجتمعات العربية لم تعد تعطي أهمية لنخبة المثقفين و المفكرين و الباحثين و العلماء و المبدعين.و لا يشكل هؤلاء أي فخر أو اعتزاز للأمة.ومن المؤسف أن نجد العقول المفكرة و المبدعة و المتفوقة يعطى لها شان عظيم خارج أوطانها، وداخل أوطانها ترمى في سلة المهملات … .و المؤسف أيضا أن نجد التنافس في علوم البطن و المعدة على أشده بين القنوات الغربية و العربية و الشرقية. .فكتب الطبخ تملأ المكتبات، و برامج الأكل تملأ الفضائيات.وأصبح الإبداع الإنساني الوحيد في العالم العربي يتلخص في الأنواع الجديدة من الأكلات.
تتنافس المدن في إعداد أكبر صحن من (الكسكس) أو من (كران) أو أكبر (بكبوكة)أو (هركمة) أو أكبر ديك رومي محمر أو أكبر كفته.. الخ… أكبر صحن يعد في طبخ ما في المغرب أو العالم،هذا ما نستطيع فعله أو قل إبداعه فنحن شعب أكول و الحمد لله .
هذا يذكرنا بزمن مضى من المدرسة، حيث كانت الأسئلة تدور بين التلاميذ (ما هو أعلى جبل في المغرب أو العالم؟ و ما هو أكبر نهر في العالم ؟،وما هي أكبر عاصمة؟الخ… وكل هذه الأسئلة كما نعرف تشكل الإجابة عنها المرتبة البدائية من التطور العقلي الذي صاغه « ليوم بلوم » وهو واحد من رواد المدرسة السلوكية الأمريكية،أي المستوى البسيط من العمليات العقلية(الإجابة لا تتطلب تفكيرا بل حفظا فقط). ونعرف أن مستويات التفكير تبدأ من البسيط إلى المتوسط إلى المركب :أي من العمليات العقلية الأولية(الحفظ و الاستظهار) إلى العمليات العقلية العليا المعقدة(أي إنتاج المعرفة أو تقييمها)…
يبدو أننا نريد أن ندخل التاريخ من أبواب البطون و ليس من أبواب العقول…(فالزردة و الغلقة و المأدبة و الوليمة… ) هي مفاهيم في أدب الجهاز الهضمي و قاموس المعدة، وهي أيضا أنشطة اجتماعية لها شأن عظيم ومهم في قاموسنا اللغوي و الاجتماعي.ونمارسها في كل مناسبة عفوية أو صغيرة أو كبيرة. بل إنها(أي المأدبة) وسيلة لتسهيل الصفقات والتوظيف و الترسيم والحصول على التراخيص و ما شابه ذلك… (إنها رشاوى بطنية تؤدي نفس دور الرشاوى المالية). فرغم أن » البطنة تذهب الفطنة » كما قال الأديب المصري مصطفى لطفي المنفلوطي ،فان ما يشاع في الثقافة الشعبية: أن الطريق للوصول إلى قلب الرجل يمر عبر معدته…فلا ننكر أننا شعب يحب الأكل (حبا جما)…
رمضان مقبل علينا،و إعلان الحكومة للشعب أن لا يتخوف من ندرة وجود المواد الغذائية من قطاني وحليب وسكر وزيت وتمور بالكميات التي يحتاجها المواطنون، فالعرض الغذائي وافر و الحمد لله(فصوموا لأجل أن تأكلوا).
الأمر نفسه يتكرر في عيد الأضحى، فتحرص الحكومة أن تستورد قطعان الماشية بالكميات الوافرة، من أجل تزويد السوق الداخلية.ويصل الأمر في بعض السنوات، أن يكون العرض مساويا: كبش لكل أسرة و كل بيت.
قدر المغاربة أنهم يعيشون من أجل الأكل الذي أصبح من الأولويات.والحكومة تخشى أن يعلن المغاربة عصيانا مدنيا أو حربا مقدسة من أجل الخبز … رغم أن اعتداد من هم تحت سلم الفقر في تزايد(8مليون دخلهم اليومي اقل من 20 درهما وتصر جناب الوزيرة نفي أن يكون من بين المغاربة فقراء.رغم أن الفقر موجود في أعظم دولة في الرفاهية وهي الولايات المتحدة الأمريكية.فهل نكذب على أنفسنا يا عالم؟؟؟)
المجتمعات الراقية تنظر إلى الأكل أنه ليس إلا حاجة بيولوجية،أي أن للإنسان حاجات أخرى أرقى خلق من أجلها ليكون إنسانا حقيقيا:حاجات نفسية- وجدانية و اجتماعية و عقلية وجسمية…و قد قيل لنا في المدارس أن الإنسان يأكل من أجل أن يعيش لا أن يعيش من أجل الأكل…
التبذير له شأن عظيم عندنا بالنسبة للفرد أو الجماعة أو الحكومة.قد يلتبس الأمر بين التبذير و بين الكرم و الإحسان،ما هي الحدود الفاصلة بينهم؟؟.
قد يصبح التبذير مرضا بالمنظور النفسي و الديني(المبذرون إخوان الشياطين).فرغم حالة الانحباس الاقتصادي و الأزمة المالية الخانقة التي تمر منها البلاد، و دعوة المغاربة المواطنين إلى شد البطون بالأحزمة، يحرص المنتخبون على اقتناء السيارات من المال العمومي، و استعمالها يكون حتى في أيام العطل، و لأغراض شخصية عائلية.دون الحديث عن الاستهلاك المفرط للوقود.
ورغم حالة التقشف التي تفرض على المواطنين، يحرص رئيس الحكومة تحت الضغط، إلى الزيادة في أعداد الوزراء، والزيادة في المناصب السامية، و إسنادها إلى (مناضلي)الأحزاب التي تؤلف الحكومة،و الإنفاق(التقاعد) على الوزراء، و نواب الأمة بعد خروجهم من الخدمة مباشرة( رغم أن القانون واضح ذلك الذي يطبق على الموظفين: التقاعد بعد الستين، إلا أن هذا القانون لا يطبق على سعادتهم ).
و رغم حالة التقشف نلاحظ الزيادة في الإنفاق المبالغ فيه على المهرجانات،بينما القطاعات المرتبطة بالشعب (التعليم و الصحة و الشغل و الخدمات…)تظل تعاني من شح و خصاصة في الأطر و الخدمات(ونساء يلدن أمام أنظار المارة على الطرقات؟؟؟). و الحكومة تنظر للقطاعات الاجتماعية أنها قطاعات طفيلية يجب التخلص منها،لأنها تتطلب إنفاقا من ميزانية الدولة الشيء الكثير و تسبب للقائمين على الشأن العام وجع الرأس المزمن…لعلمنا أن الإنفاق على مهرجان واحد في سنة واحدة، يكفي لتجهيز مستشفى جامعي،أو توظيف أطر في المؤسسات التي تعاني من خصاص …
لا نسابق الأمم و لا ننافسها في الجامعات،و لا في الأطر ذات الجودة و التكوين العالي (فليس لدينا جامعات مصنفة دوليا)، و لا نملك مراكز البحث العلمي المشهود لها بالقيمة في المنابر العالمية .و التعليم يحتل مراتب متدنية في الترتيب العالمي، وكذلك العناية الصحية، و نسب عالية في البطالة و الفقر، و لنا شهرة عالمية في السياحة الجنسية :أصبحت مراكش عاصمة دولية للسياحة الجنسية و الشذوذ الجنسي والاستغلال الجنسي للأطفال’البيدوفيليا).
أما المثقفون و العلماء و الباحثون الذين لهم صيت عالمي و المبدعون الحقيقيون فلا وجود لهم في القنوات الوطنية.بل نصر عوض ذلك،على إقامة المهرجانات في الموسيقى على أشكالها: العالمية و الصوفية و الراي و كناوة..الخ.. ومهرجان الرقص و الضحك و الأفلام. مهرجانات تبذر فيها أموال الشعب بطريقة حاتمية …ذلك ما نبدع فيه…عملا بالقول المأثور عند عامة الناس: (عندما تشبع البطن يبدأ الرأس في الغناء)…و نمارس هذا ونحن في وضعية تقشف، و تحت وطأة قروض مرعبة من الداخل و من مؤسسات بنكية عالمية… ونقول الحمد لله على النعم…
لا نختلف في التأكيد ، أن أصعب نظام في التعليم و السياسة، هو النظام الديمقراطي، لوجود الحق في المعارضة (أي الاعتراف بحق الآخر في الوجود)، وأسهل نظام في التعليم و السياسة،هو النظام الديكتاتوري أو السلطوي لانعدام وجود من يعارض،أو يرفع الصوت:لا أوافق…
السؤال المطروح : كيف ننتقل ديمقراطيا من التفكير في الأكل إلى التفكير في نهضة فكرية و علمية؟أو بصيغة أخرى :كيف يتم الانتقال الديمقراطي من الثقافة البطنية إلى الثقافة العقلية و العلمية؟
الحقيقة أنني لا أنكر ضياع بوصلة التفكير في البحث عن إجابة يقتنع بها عقلي وعقول المتعلمين.يبدو انه سؤال فيه إحراج للعقول بلا شك، وسيظل معلقا بين السماء و الأرض و بدون إجابة مقبولة ما شاء الله من الزمن…
وفي غمرة الانشغال بإجابة يطمئن لها عقلي، استوقفني صوت يأتيني من قريب،انه ينبعث من أحد دكاكين بيع الأشرطة الغنائية.و رغم ضجيج المارة استطعت أن أميزه،.انه صوت كوكب الشرق ، السيدة أم كلثوم ، سيدة الطرب العربي بلا منازع.
السيدة أم كلثوم كانت تطرب المارة بأغنية « القلب يعشق كل جميل « .أغنية في الحب الإلهي، و الأدب الصوفي.
لقد جعلني هذا الطرب الديني الصوفي، أنسى ما كنت منشغلا فيه. إنها قصيدة باللغة العامية المصرية، من نظم الشاعر التونسي الأصل، المصري الجنسية (أعطيت له الجنسية المصرية سنة 1954)، ومن لحن الموسيقار العبقري رياض السنباطي.و قد قدمت أول مرة للجمهور المصري سنة 1972.
كنت أصغي لأم كلثوم، وهي تغني و تطرب من وقف من المارة للإصغاء لها :
القلب يعشق كل جميل ويا ما شفت جمال يا عين
و اللي صدق في الحب قليل و إن دام يدوم يوم ولا يومين
و اللي هويته اليوم دايم وصاله دوم
لا يعاتب اللي يتوب ولا في طبعه اللوم
واحد ما فيش غيره ملا الوجود نوره
دعاني لبيته لحد باب بيته
وأما تجلى لي بالدمع ناديته
ولطول الأغنية الرائعة فضلت الانصراف إلى حال سبيلي، لأكمل الإصغاء إليها في البيت، لعلي أجد الهدوء،وأجد بوصلة تفكيري الضائعة…
إنتاج:صايم نورالدين
Aucun commentaire