السؤال في ذمة الله(و بشر الصابرين…)
السؤال في ذمة الله(و بشر الصابرين…)
في الأدبيات التربوية يرتبط السؤال بالطريقة السقراطية أو الطريقة السؤالية أو الطريقة التوليدية نسبة إلى المهمة التي كانت تقوم بها أم سقراط الحكيم اليوناني معلم أفلاطون و أرسطو وهي التوليد(كما جاء في كتب التاريخ الفلسفية) .
لأرسطو يرجع الفضل في إعطاء أهمية بالغة للفلسفة اليونانية التي سيطرت على الذهن العربي و الأوروبي قرونا (على الأقل طيلة المدة التي سميت بالفترة الإقطاعية أو العصر الوسيط )و انشأ المنطق الذي يحمل اسمه (المنطق الأرسطي)، رغم أن التلميذ أفلاطون هو من سعى إلى نشر أفكار معلمه عبر المحاورات التي ألفها و التي كانت تؤرخ لفترات من حياة سقراط حتى محاكمته و مماته.
السؤال السقراطي كان متدرجا تصاعديا ينطلق من المعرفة إلى الشك إلى اليقين ، ودائما يعتبر السؤال هو الوسيلة للصعود من المعرفة إلى اليقين عبر عتبة الشك.كان السؤال مشروعا رغم أنه سبب لصاحبه سقراط إحراجا و مشاكل في المجتمع اليوناني و ألب اليونانيين على فيلسوفهم الذي كان يرى نفسه أنه مبعوث من العناية الإلهية.الإله الذي كلمه في المنام و نعته بأنه أحكم الناس، ورأى نفسه ملزما بتبليغ رسالة الإله إلى اليونانيين من أجل أن يوقظهم من الوهم (وهم المعرفة التي لا تخضع لأي تمحيص(الشك).لقد شبه نفسه بتلك الذبابة التي تحوم على جواد أصيل فلا تترك له الفرصة في الراحة،بل تعمل على استثارته و مضايقته بتحركاتها المتعددة على أنحاء من جسمه.وهكذا كان سقراط لا يترك الناس في حالهم و في اليقين في معلوماتهم ،بل يسعى إلى ادخل الشك إلى عقولهم و مراجعة معتقداتهم المعرفية.
و المؤرخون للفكر الفلسفي يتفقون أن النظام السياسي في أثينا ،كان نظاما جمهوريا ديمقراطيا(أول جمهورية ديمقراطية شعبية عرفها التاريخ حيث يختار الشعب من يمثله في مجلس الشعب)، كان للفرد فيه متسع من الحرية الفكرية، و التي سمحت للفكر و العلم و الشعر و المسرح و الطب و الهندسة و الحساب و الفلك ،أن يتطور و ينمو و يتسع في الموضوعات التي يناقشها. كانت مواضيع الحكمة تحيط بدءا بما وراء الكون، والكون الطبيعي و انتهاء بالإنسان.حتى أن سقراط يقال عنه انه أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض و جعلها تهتم بالإنسان.
الديمقراطية ساهمت في تحرير الإنسان من الخوف و التبعية و الاعتقادات الخاطئة في كل مناحي الحياة ،وأعطت للإنسان الوسائل ليحرر عقله من رواسب الشعوذة و الخرافة و الخيال المرضي، وفسحت لعقله مساحات واسعة و مواضيع متنوعة ينالها بالتمحيص و التفكير و التعليل و التحليل.
اختار سقراط و تلميذه أفلاطون الطريقة السؤالية (الحوارية) عوض التلقين و الإملاء.و جعل سقراط المعلم و الحكيم ، المحاور لا يكتفي بالإجابة السطحية المشكوك في صحتها، لأنها قد تحتمل التناقض في داخلها، بل دفعه إلى مراجعة أقواله و تفكيره قبل الإجابة حتى لا يقع في تقديم إجابة بسيطة و مهلهلة عن السؤال.
يذكر أن سقراط كان يشجع محاوره على متابعة النقاش عندما يشعر بتعبه، أو يصل إلى بعثرة أفكاره ،أو الشك في معلوماته.انه يضعه في موضع المحرج أمام المتفرجين و خاصة أولئك الذين يدعون المعرفة و يتفاخرون بها.كثيرا ما اوقع المحاورين في تناقضات تجعلهم يختلقون الأسباب للانسحاب من المناقشة . إن استعمال الذهن و التفكير قد يحقق تعبا و وهنا للعقول التي لم تألف أن تستعمل التفكير في أمورها العادية والأمور غير العادية.
هكذا نقول أن الشعوب التي تطورت هي التي فتحت المجال للفكر أن يقوم بغزو للطبيعة و الكون و الإنسان وأن يغوص في اعماق ذاته أخيرا .و لهذا أصبح كل شيء تحت المنظار العقلي يخضع للمحاسبة و المساءلة و التفكيك و الربط و الاستنتاج و الخلاصات و المقارنات الخ من العمليات التي يقوم بها العقل البشري.، للدلالة أن الإنسان كائن مفكر و خلق ليفكر وأمر أن يفكر.وأن الطريق إلى التفكير يمر عبر السؤال الإشكالي (في لغة أهل الفلسفة)أو السؤال الذي يحدث زوبعة في الذهن شبيهة بالزوبعة في الطبيعة و التي أطلق عليها المفكرون الغربيون(الامريكيون) بتقنية الزوبعة الذهنية التي تجعل الذهن في حالة من الإسهال الفكري الذي يسجل و يرتب و يفحص و ينتقى،كل الخلاصات و الاستنتاجات….لهذا يقال لنا في الأخبار السياسية أن الحكومة الأمريكية أو الصهيونية تضع كل الحلول و تطرحها على الطاولة. وهذه الطريقة توجب أن يكون عدد المساهمين في التفكير بهذه الطريقة يتراوح عددهم العشرة. مهمتهم إطلاق العنان للفكر حتى يتناول الصغائر من الأمور و الجزئيات،ليصل إلى الكليات(إن السؤال إعلان عن موت الديكتاتورية و الانفراد بالرأي وفرضه رغم عدم الاتفاق عليه أو عدم صلاحيته.ان السؤال ممنوع في الأنظمة الديكتاتورية).السؤال طريق الى فتح طريق للمناقشة و الحوار و التفكير العميق. و في طريقة السؤال قاعدة أو قانون :الحقيقة حق للجميع و ملك للجميع .
في النظام العسكري يمنع التفكير و المناقشة و الحوار و يفرض الخضوع للآمر و في مؤسسات المجتمع يتم حفظ و تخزين المعلومات و الاملاءات:خضوع الفكر و خضوع العواطف و الفكر معا للسلطة العليا.أي خضوع الإنسان بكليته لسلطة خارجية. و في النظام العسكري الديكتاتوري الجميع يعامل كما تعامل القطعان من الماشية من طرف قائدها الذي يسوقها إلى أين يريد؟ متى يريد؟ كيف يريد؟ و بعبارة أوضح من حقه لوحده أن يفكر ، وتفكيره دائما- كيفما كان نوعه- لا يحتمل إلا الصدق و السلامة من الغلط في نظر نفسه و يجب أن يكون في نظر الآخرين. أما البقية هم رعاع و قطيع من التابعين الذين لن يستطيعوا الحياة بدون قائدهم ،فهم في نظره ليس لهم قلب و لا عقل و لا إحساس.
لا وجود للسؤال و المحاسبة في الأنظمة الديكتاتورية في الأسرة و المدرسة و المجتمع، بل كل شيء يتم عن طريق التلقين و الخضوع و الطاعة العمياء.
و يرى علماء التربية أن أسهل طريقة في التعليم هي الطريقة الإملائية التلقينية لأنها تجعل الحق في المعرفة مقتصرا على المدرس، أما المتعلم فعليه أن يتلقى يستوعب و يحفظ و يكتب. فهي إذن علاقة المريد بمعلمه. أو علاقة السيد بعبده.وهي في الأخير تعفي المدرسين و المتسلطين من إعادة النظر في معارفهم، و تجديدها، أو إخضاعها للنقد.
و يرى علماء التربية كذلك ،أن أصعب الأنظمة في الحكم هي الأنظمة الديمقراطية التي تتطلب أسلحة فكرية متنوعة و متعددة في الإقناع و المحاجة و الحكم السليم، و الاستماع إلى الآخر، و الأخذ بأفكاره، عوض إلغائها لعدم صلاحيتها . فالحقيقة ليست حكرا لأحد أو ملكا له . بل المعرفة هي ضالة من يبحث عنها .و أن أسهل الأنظمة في الحكم هي الأنظمة الديكتاتورية المدنية أو العسكرية فالعصا هي شعارها. و هي من الجنة، كما يقولون. لأنها تحل كل المشاكل المستعصية بما فيها الاحتجاجات على قرارات تعسفية. أو الاحتجاجات على قوانين جائرة. أو الاحتجاجات للمطالبة بمحاكمة الأشخاص الفاسدين ،أو المطالبة بإشراك الشعب في القرارات المصيرية…
انتاج:صايم نورالدين
Aucun commentaire