حين تتطاول النكرات على المعارف
تابعنا جميعا تطاول الدكتور الديالمي على فضيلة الأستاذ العلامة خلال ندوة الإجهاض، وما كانت حادثة مثل هذه لتحملني على الكتابة في الموضوع، خصوصا وأن فضيلة الأستاذ لقنه درسا في الأدب، باللغة التي يفهمها أستاذ علم الاجتماع بجامعة فاس؛ بيد أني وجدت الصحف الصفراء المغرضة تروي الحدث متحاملة على فضيلة الأستاذ العلامة ساعية إلى تغليط الرأي العام، أو ظانة أنها تغالطه.
لقد كان واضحا من الفيديوهات المسربة الذي توثق جوانب من الحدث، أن فضيلة الأستاذ تحدث في مقام الرد والتعقيب، وأن إساءة الأدب قد صدرت من صاحب نظرية الجنسانيات، حين وصف رجلا يشهد له المشرق والمغرب بالأهلية العلمية بأنه محض ( فقيه متمذهب يغالط الناس ) .
وعبارته تشي بجهل فاضح باللغة التي يستخدمها للتعبير عن فكرته، فهو لا يعرف أن الفقه أخص من العلم، فكل فقيه عالم، وليس كل عالم فقيها؛ وهذا مما يسهل عليه أن يتثبت منه لو رجع إلى أقرب المعاجم اللغوية لديه، فمعنى الفقه يتردد فيها بين الفطنة، والفهم الدقيق، والنفاذ إلى حقائق الأشياء.
كما تفضح عبارته بعد ذلك جهله الكبير بالإسلام، لأنه لو كان يعلم النزر اليسير منه لعرف أن الفقه في الدين منحة لا يهبها الله إلا لمن أراد به خيرا، كما أشار إلى ذلك من لا ينطق عن هوى صلى الله عليه وسلم.
فإذا فهمنا ذلك على وجهه وجدنا أن وصف فضيلة الأستاذ ليس إلا تقريرا لواقع يجب ألا يغضب ( عالم ) الاجتماع، فالفقه ليس مجال اشتغاله، ولذلك فإن غضبه وثورته لم يكن لهما ما يبررهما، فهو نفسه يسلم بأنه لا يفهم في الفقه، بل إنه ليفخر بجهله به، فهو عنده محض آراء شخصية لا ترقى إلى أن تكتسي طابع العلم؛ بيد أنها المصادرة والإرهاب الفكريان اللذان يمارسهما بعض أشباه الدارسين ممن يدعون التضلع في العلوم، أو يظنون ذلك، فيبيحون لأنفسهم أن ينقدوا الناس نقدا يتخطى حدود اللياقة لكنهم لا يقبلون من الناس أي كلمة مخالفة لمذاهبهم في الرأي، وإن كانت صادقة لا تتجاوز حدود وصف الواقع.
ولسنا نستغرب هذا في زمن المفارقات، فإن كثيرا من الموازين انقلبت، حتى صار رجل نكرة كل حصيلته كلام فارغ عن الجنس عالما، وأصبح صاحب اليد الطولى في الفقه والتفسير وعلوم اللغة مجرد ( فقيه )، طبعا بعد أن تحمل هذه العبارة شيئا غير قليل من القدحية.
إن أستاذ علم الاجتماع يجهل أن علماء الغرب وفلاسفته أنفسهم اشترطوا للدراسة حتى تحوز صفة العلمية أن يجتمع لها استقلالية الموضوع، والمنهج؛ وهما شرطان توافرا للفقه منذ أبعد عهوده، أي قبل أن تستقل العلوم عن الفلسفة، في الوقت الذي ما يزال الخلاف ناشبا بين الدارسين والفلاسفة حول عد الدراسات الإنسانية بما فيها علم الاجتماع علوما، وما يزال إطلاق مسمى العلم عليها ضربا من ضروب التسامح والترخص. ووفق تنميط الغرب نفسه للعلم لا يمكن أن تسحب صفة العلمية عن الفقه، فإن كان بعض الناس يجهلون أن للفقه موضوعا مستقلا ومنهجا فريدا في البحث، فإن ذلك لا ينقص من قدر الفقه شيئا؛ ثم إن الفقه قبل ذلك وبعده لا يحتاج إلى شهادة أرقاء الفكر الغربي، كما لا يحتاج عالم من طراز أستاذ الجيل فضيلة الدكتور مصطفى بنحمزة إلى شهادة أحد من هؤلاء جميعا.
إن الفقه المتمذهب الذي يلمزه صاحب نظرية الجنسانية، وهو فقه إمام المدينة، اعتمد أصلا منهجيا متفردا يجمع ولا يقصي، وأراه أصلا تربويا قبل أن يكون أحد عناصر المنهج الفقهي المالكي عنيت: أصل مراعاة الخلاف؛ ولولاه لما جالس فضيلة الأستاذ نفرا فيهم مثل صاحب النظرية المأفونة، ليسمع منهم ويعرض أمامهم حكم الشرع.
لكن رعاية الخلاف، والتنازل لمناقشة قضية ( حسمها ) الفقه، وإن اختلف في بعض تفاصيلها وجزئياتها، لا يعنيان أن نسكت حيث يجب الكلام، ولا أن نحترم الرأي الذي يخرج عن مناقشة الفكرة إلى الطعن في الأشخاص، وإصدار الأحكام الجاهزة المنمطة على المخالف. إن الخلاف المرعي هو الخلاف القائم على الدليل، المتسلح بالحجة، أما الكلام العام المبني على الهوى، فلا اعتبار لها ولا رعاية.
وأنا وإن لم أكتب هذه الكلمات لأتكلم في موضوع الإجهاض، فإنني أحب أن أذكر أن الحق في الحياة الذي تكفله شرائع السماء والأرض، حق وهبه الله تعالى للإنسان، وليس لأحد غير الله أن يسلبه منه؛ ومن هنا فإن الفقه وحده هو القادر على أن يبحث المسألة، لأن موضوعه بحث حكم الله واستنباطه. نعم يمكن أن نفتح نقاشا تبحث فيه المسألة في أبعادها المختلفة، وتتقارب فيه وجهات النظر، ولكن شرط أن يكون الدافع هو بلوغ فهم أصدق للواقع، لا محاولة تبرير الفاحشة، ليصبح لنظرية الجنسانية بعض الوزن، ولدعاة العهر مساحة يتحركون فيها بحرية.
3 Comments
وهل تلتقي الفضيلة والرذيلة؟؟
مقال متميز
بارك الله فيك أخي
و جزاك الله خيرا
رحمه الله صاحب المقال