في إحدى القرى النائية المقصية ، المهمشة المنسية ، تقع مدرستي.

تم ربطها مؤخرا  بالكهرباء بفضل جمعية غير حكومية ، بعدما عانت من ديجور الظلام بعد خفوت  نور المصباح الذي لم يعد يضيء حتى على نفسه. أقسامها تبدو وكأنهاتنتمي إلى العهد الجوراسي.

  الساعة الثانية بعد الزوال.النهار قيظ . شمس أواخر شهر مايو الحارة صهدتنا. يرن الجرس.مزعج صوته.إنه أشبه بصفارة إنذار. سمعت أن للجرس في اليابان رنة موسيقية عذبة . يُحفز المتعلمين على الإقبال على الدراسة بانشراح كبير. الامر عندنا هنا مختلف. يُشعرك كأنك ستُقدم على شيء رهيب.

*****

داخل حجرة من البناء المفكك ، الذي استنفذ مدة صلاحيته منذ زمن بعيد، وأمام سبورة باهتة متهالكة يجلس المتعلمون . يجلسون على مقاعد حفّرتها عوامل التعرية بعد أن نحتت عليها أقلام الصغار نقوشا وحروفا ورموزا..    في الجانب المقابل إدارة من البناء المفكك وسكن وظيفي من البناء المفكك. كل شيء هنا مفكك.

*****

البناء المفكك لا يقي من شر حرارة الصيف بل يزيدها التهابا. وفي فصل الشتاء لا بحمي الأطفال الصغار من القر.فترتعش الأجسام من شدة البرد ولا تقوى الأيادي على الكتابة إلا بعد النفخ فيها عن طريق الفم وحكها ببعضها البعض.

*****

  التلاميذ منشغلون بفك رموز نص قرائي يحكي عن أمجاد العرب وهم الذين لم يعايشوا سوى الخيبات.خيبات في  السياسة ، خيبات في الرياضة ومراتب متدنية في التعليم… وخيبات أخرى حتما ستأتي إذا استمرت حالتنا هاته.                 يبدو عليهم الإرهاق والتعب من كثرة الساعات الطويلة التي قضوها في المدرسة. بدأ النوم يداعب أجفانهم . صوت ذبابة يعلو .صمت مطبق. لا صوت يعلو فوق صوت الذبابة . يذكرني هذا الطنين ان فصل الصيف على الأبواب، كما يوحي لي بأشياء كثيرة . لما كنا صغارا كنا نقضي حاجتنا في الخلاء.يأتي الذباب بلونيه الاسود والاخضر ليعقد تجمعا غير مرخص له. نهُشّ غليه فنفُضّه فضّا كما تُفض المظاهرات ، لكنه سرعان ما يُعاود الكَرّة .عنيــد.

*****

أقف عند الباب . أرى رجلا كهلا يفرغ مثانته خلف الحائط القصير للمدرسة.

أعود إلى القسم.

–          اسّي نقرا ، اسّي نقرا.. اسّي أنا ، اسّي أنا..

  إنهم يتهافتون على القراءة كما تتهافت بعض الأحزاب على السلطة.التلاميذ يختلفون عنهم .غايتهم أو هاجسهم الوحيد هو إبراز قدراتهم القرائية والتي بتفقون فيها على بعض النواب المحترمين. أجد صيغة . التناوب! 

يتناوب التلاميذ على القراءة كما تتناوب الأحزاب السياسية على الحكم. .إنه زمن التناوب .الم يُصرح يوما أحد الزعماء السياسيين  آآمولا  نــــوبة !

 أرقب عقارب الساعة .إنها تمشي ببطء شديد.متى يأتي وقت الخروج لاتخلض من هذا الجو الخانق..اصبحت مثل أحد شخصيات غسان كنفاني في رواية  رجال في الشمس.

« الحر خانق ومخيف هنا ….  كانت الشمس .. مستديرة متوهجة براقة، … فرش أسعد قميصه فوق رأسه وطوى ساقيه إلى فخذيه وترك للشمس أن تشويه بلا مقاومة…« 

يتبع