محاكمات تفضح اصحابها
عبد الباري عطوان
يروي انه بعد سقوط برلين، في ايدي قوات الحلفاء، وبعد تدمير مدينة دريسدن بالقنابل الحارقة، والاسلحة الكيماوية وقتل عشرات الآلاف من سكانها حتي بعد حسم الحرب نهائيا، وانهيار الحكم النازي، قدم الجنرالات المنتصرون الي نظرائهم الالمان وثائق الاستسلام وامهلوهم بضعة ايام لقراءة شروطها، فما كان من القائد الالماني إلا ان قال اين تريدني ان اوقع؟ ، فقال له هنا، فبادر بالتوقيع فورا، ورفض المهلة، لانه ليس في موقع تعديل الشروط.
المنتصرون هم الذين يكتبون التاريخ، ويفرضون شروطهم علي خصومهم، ويطبقون قوانينهم، ومحاكمة الرئيس العراقي صدام حسين ورفاقه التي استؤنفت امس هي تأكيد اضافي علي هذه الحقائق.
الامريكيون هم الذين يحاكمون الرئيس العراقي ورفاقه، ويريدون اعدامه فعلا من خلال محاكمة سريعة وشكلية، لا تتفق مع المعايير الدولية التي طالما قالوا انهم متمسكون بها.
فمن الواضح ان القاضي زركان محمد امين الذي يتولي هذه المهمة التي هي اكبر منه ومؤهلاته بكثير، يمرر الوقت، ويلعب دورا رئيسيا في هذه التمثيلية سواء بعلمه او عدمه، للايحاء بان هناك محكمة عراقية اصدرت حكما بالاعدام جري تنفيذه.
اختيار محاولة الاغتيال التي تعرض لها الرئيس العراقي في عام 1982 في بلدة الدجيل وما تلاها من اعدامات لاكثر من مئة واربعين شخصا من المتهمين المنفذين واقاربهم، لم يكن من قبيل الصدفة، وجاء اختيارا مدروسا بعناية. ليس لان التهمة سهلة الاثبات مثلما تردد، وانما لانها الاسلم بالنسبة الي الاحتلال والمتعاملين معه.
فأي رئيس يتعرض لمحاولة اغتيال، عربيا كان ام اجنبيا، يقدم من ارتكبوا هذه الجريمة الي المحاكمة، وفق القانون المتبع في البلاد، ومن الطبيعي ان يفعل الرئيس العراقي صدام حسين الشيء نفسه. وكان في تصرفه هذا اكثر قانونية، وهو الدكتاتور الظالم، من الرؤساء الامريكيين الديمقراطيين زعماء العالم الحر.
فعندما تعرض الرئيس الامريكي السابق جورج بوش الأب الي محاولة اغتيال في الكويت في منتصف التسعينات ارسل الرئيس الامريكي بيل كلينتون القاذفات الامريكية في اليوم نفسه لقصف بغداد، وفندق الرشيد، ليقتل عشرات الابرياء، من بينهم الفنانة ليلي العطار.
بوش الاب عندما تعرض لهذه المحاولة لم يكن رئيسا لامريكا، وانما ضيفا زائرا لبلد حرره من القوات العراقية، وللتمتع بثمار انجازه تكريما وحفاوة. ومع ذلك لم تتردد الادارة الامريكية في الانتقام له لحظة واحدة.
الادارة الامريكية لم تنتظر بدء التحقيق في عملية الاغتيال المزعومة، من قبل الكويتيين انفسهم، او من قبل خبرائها، ناهيك عن انتهاء التحقيقات وتحديد الجهة المسؤولة، وارسلت الطائرات لقتل ابرياء لم يتورطوا فيها، بل ربما يكونون من المعارضين لنظام البعث في العراق التي ذهبت زميلتها الإدارة الجمهورية لتحريرهم بعد عشر سنوات.
اننا هنا لا ندافع عن نظام الرئيس العراقي، فنحن لا نبرئه من الكثير من الاحكام الظالمة في حق الآلاف من العراقيين، كما اننا لا نختلف لحظة واحدة مع كل ما ذكره الشهود اثناء المحاكمة المهزلة عن حالات التعذيب في السجون، بل نؤكد ان هناك ما هو اكثر فظاعة منها. ولكننا نتحدث هنا عن الازدواجية الامريكية، والعدالة الانتقائية الكاذبة المجسدة لها، في هذه المحاكمة بالذات.
الامريكيون اختاروا محاكمة الرئيس العراقي علي اساس جريمة الدجيل، وليس مجزرة حلبجة، لانهم لا يريدون فتح ملفاتهم، وتورطهم في هذه المجزرة بطريقة مباشرة او غير مباشرة، باعتبارهم كانوا شركاء النظام واكبر داعميه في حينه بالاسلحة الكيماوية والمعلومات الاستخبارية.
فاختيار مجزرة حلبجة كأساس للمحاكمة كان سيعطي الرئيس العراقي الفرصة لفضح كل الجرائم الامريكية، والحديث عن مصدر اسلحته المستخدمة فيها، والوثائق الامريكية التي برأته من استخدامها في حينها، والصقتها بايران.
المحكمة لن تكون عادلة، لان قضاتها لا يتمتعون بالخبرة التي تؤهلهم لهذه المهمة، ولان الدفاع والشهود ايضا لا يتمتعون بالحماية الكافية، فكيف تكون المحكمة عادلة وقانونية والسلطة العراقية تؤكد انها احبطت محاولة لتفجيرها يوم انعقادها وجري اغتيال اثنين من المحامين حتي الآن؟
الرئيس العراقي يشتكي للقاضي من انهم صادروا اوراقه وقلمه، واضطر لتدوين ملاحظاته علي باطن راحته، فأين هو الخطر الامني الذي تشكله مجموعة من الاوراق وقلم رصاص في يد المتهم الرئيسي؟
شاهدنا سلوبودان ميلوسوفيتش يظهر امام المحكمة الدولية، وهو مجرم حرب تماما مثل صدام حسين وفق التصنيف الامريكي، ويدخل المحكمة بكامل اناقته، محاطا بالمساعدين والاطباء، ويحتجز في زنزانة اقرب الي الاجنحة الفخمة في فنادق الدرجة الاولي في الفنادق الاوروبية، مزودة بكل ادوات الراحة بما في ذلك جهاز تلفزيون يلتقط اكثر من خمسمئة قناة فضائية.
مرة اخري نقول ان الرئيس العراقي يجب ان يحاكم وجميع الحكام العرب الدكتاتوريين الآخرين، ولكن تجب محاكمة الرئيس الامريكي بيل كلينتون ايضا لقصفه فندق الرشيد، وتجب محاكمة جورج بوش، الاب والابن، لان الاول دمر العراق في حربه الاولي، والثاني غزاه واحتله دون مسوغات قانونية في حربه الحالية، وقتل حتي الان مئة الف من ابنائه علي الاقل، وحوله الي ساحة للفوضي والجريمة والعنف والارهاب، وما زالت طائراته وحتي هذه اللحظة، تقتل العشرات، وربما المئات من الابرياء في الفلوجة والقائم والرمادي.
من يستحق المحاكمة ايضا جميع حكام العراق الجديد الذين تواطأوا علي الغزو وسهلوا احتلال بلادهم، ووفروا الغطاء لقتل عشرات الآلاف من ابناء شعبهم.
الرئيس العراقي صدام حسين ربما يعيش ايامه او اسابيعه الاخيرة، ولكنه خرج من هذه المحاكمات منتصرا متحديا قويا، كان هو الطليق الحر المدافع عن كرامة بلاده وعروبتها وعزتها وخصومه هم الذين كانوا في قفص الاتهام.
وربما لن يكون مفاجئا، ان نري في المستقبل القريب، حكام اليوم في العراق، في قفص الاتهام نفسه في الغد. فالاحتلال الامريكي زائل، ومصيره مصير كل الاحتلالات الاخري، وعلي ايتامه ان يستعدوا لهذه النهاية ان آجلا او عاجلا.
عن جريدة : القدس العربي
Aucun commentaire
oui sadam hsin 3la h9 wyajb 3la l3arab an yataharak waila …….
صدام التحدي